حرب الأجيال المفخخة.. الطائفية والتعليم في اليمن.. بحث في المعنى والمنهجية والإستغلال السياسي.

لا توجد دولة تتحمل إنتاج جيل كامل دون تعليم جيد ، فهذا الجيل سيدمر الدولة داخليا لتتفتت وتفقد وجودها ، الشرق الأوسط أهمل التعليم والأن يدفع الثمن ، هكذا ختم خبير التعليم "فكتوريا شيا" أحد حواراته عن جدوى التعليم في تحديد ماهية المستقبل للدول ، المستقبل الذي تصنعه أجيالاً تعلمت بطريقة عملاقة لا تتأثر بنوائب الدهر وتفلبات الزمن كما يقول عنها "مهاتير محمد".

توطئة: 

 لا توجد دولة تتحمل إنتاج جيل كامل دون تعليم جيد ، فهذا الجيل سيدمر الدولة داخليا لتتفتت وتفقد وجودها ، الشرق الأوسط أهمل التعليم والأن يدفع الثمن ، هكذا ختم خبير التعليم "فكتوريا شيا" أحد حواراته عن جدوى التعليم في تحديد ماهية المستقبل للدول ، المستقبل الذي تصنعه أجيالاً تعلمت بطريقة عملاقة لا تتأثر بنوائب الدهر وتفلبات 


في أحد الأشكال من حديثي هنا سيأتي مصطلح الجهل والتجهيل منساقاً خلق إرادة الطغيان السياسي في تسهيل عملية تسسيير وقيادة الشعوب المنطوية ضمن المعنى الضمني للقطيع ، القطيع الذي يجهل نفسه وذاته وحياته ، بتلك الصورة القاتمة من الجهل سيكون منساقاً راضياً شاكراً لا يطلب أكثر من أكله وشربه ورضا السلطان عنه. 

وهنا يأتي مفهوم مالك بن نبي "القابلية للاستعمار" لفهم تجربة المجتمعات المستعمَرة. "القابلية للاستعمار" مفهوم مركّب، فمن جهة يحيل إلى تخلف وانحطاط المجتمعات بحيث تصبح قابلة للاستعمار، ومن جهة أخرى يصف تجربة لاحقة على الاستعمار نفسه. فالاستعمار نشر الجهل في هذه المجتمعات وخاصة بتاريخها وتراثها، فترى نفسها على الشاكلة التي يريدها لها المستعمِر، ما يجعلها قابلة للاستعمار.

 

أما في الشكل الآخر من حديثي، فإن الدمج المغفل للأساسات المتعددة المستغلة للمسألة الطائفية مع سلطة قوية داعمة يحول التعليم إلى أيديولوجيا سائلة ، تنساق مع رغبات مالكها وأهدافه ورغباته في إظهار جوانب معينه لإخفاء أخرى ، ويحوّل الفهم الموضوعي إلى توجيه وتحشيد غرائزي.


أما إذا قلنا إنّ الجهل والتجهيل في التعليم مجرد سياسة إستعمارية كما يقول مالك بن نبي فنحن نخلي عن أنفسنا المسؤولية تماماً ، وندخل ضمن إطار نظرية المؤامرة التي تروجها الأنظمة الفاشلة والديكتاتورية لتبقى ممسكة بزمام السلطة، مانعة أي حراك ديمقراطي، وبهذا المعنى المؤامراتي تصبح الطائفية والتجهيل هي من صناعة الإستعمار بينما مجتمعاتنا خالية بالأصل من أي بعد طائفي. فنحن جيدون لكن الدول الأخرى تقوم بالمؤامرات ضدنا لتؤلبنا على بعضنا، وتفرقنا، وتحكمنا في المحصلة.


وإذا قلنا إنّ الطائفية في التعليم هي مجرد شيء ثقافي يصيب المجتمعات في حالاتها المتخلفة، فنحن نؤبّد نظرية المجتمعات ذات الهويات الثابتة التي لا تتغير، وهذا بدوره يصب في إطار الصورة النمطية التي تحاول سياسات الدول المتقدمة نشرها عن مجتمعاتنا، لتؤبدها في تخلفها وتستهلك تلك الصورة الاستشراقية لصالح سياساتها ولصالح جمهورها.


سأحاول في هذا البحث قدر الإمكان، الابتعاد عن كلا الحديّن معاً، أي الاختزال الأحادي والدمج المغفّل لأحدهما، بهدف الوصول إلى أعلى مستوى ممكن من الموضوعية والفهم والتوضيح لمشكلة الطائفية في التعليم، التي لن نتمكن من بناء إي مشروع وطني مستقبلي قبل مواجهتها وإيجاد الحلول المعقولة لها.


أساسات وأصول وجذور تاريخية: 


المسالة التطييفية اليمنية لا تختلف كثيراً عن بقية البلدان العربية في الشرق الأوسط ، التحديات ذاتها والمناطقيات الجغرافية تتشابة والعنصريات الإثنية قريبة من بعضها ، ولهذا ستجدون أن سياسة تطييف التعليم وجهاً واحداً وصورة واحدة في الجغرافيا العربية ، أساسيات هذه الكارثة بنيت إعتمادا على قاعدة دينية إسلامية مذهبية كما في حالات السنة والشيعة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى هناك جذور مناطقية جنوبية شمالية كما في الحالة اليمنية والسودانية ، ومن جهة أخرى فالسيطرة العسكرية على الإرض في ذات الوطن الواحد تصنع أساساً ولو مؤقتا لتطييف التعليم. 


لكن بتقدير من بعض الفلاسفة المعاصرين فإن الطائفية هي منتج أصيل من منتجات النظام الإسلامي في الحكم، فقد قام النظام الإسلامي منذ العصر الأول على رفع المسلمين فوق غيرهم من أبناء الديانات الأخرى بناء على هوياتهم الدينية، ثم حل هذا البلاء على عالم المسلمين نفسه عندما انقسم العالم الإسلامي إلى سنة وشيعة أولاً، ثم إلى العديد من الطوائف والمذاهب الإسلامية التي يدّعي كل منها أحقيته بالحقيقة الدينية والحقيقة السياسية خلفها، بل فوقها،


ويعدّ نظام الخلافة الإسلامية نظاماً طائفياً بامتياز من وجهة نظر معاصرة، وذلك من حيث اعتباره كل من ليس مسلماً هو في درجة أقل من المسلمين (أهل ذمّة، وأهل كتاب... إلخ) أقل حقوقاً وأقل مواطنة، وهذا ما يرفع التمييز إلى مستوى "الحق الطبيعي" للمسلمين دون غيرهم، ويجعل من المساواة المواطنية أمراً مستحيلاً في ظل الحكم الإسلامي وخارج دائرة المسلمين؛ السنة أو الشيعة، أنفسهم.


تطييف التعليم في التاريخ اليمني المعاصر: 


مما لا شك فيه فأن التعليم في اليمن ليس سوى ورقة من أوراق السياسة والتحشيد ، القوة والتحالفات السياسية صاغت كل ملامح العملية التعليمية والمناهجية في اليمن ، كما أن الهوية المذهبية للسياسة والسلطة شكلت من جهتها ملامحاً أخرى للتعليم ، السلطة التي تحكم أو المذهب الذي تعتنقة السلطة هو بالضرورة منهج التعليم في الجغرافيا اليمنية شمالاً وجنوباً ، قديماً وحديثاً.

سأناقش الإشكالية من جانب المتغيرات السياسية المرتبطة بمذهب القوة ، سارداً بلغة غير مكتوبة نتاج تلك المتغيرات على التعليم ومراحله وتطوراته في اليمن. 


(1) إشكالية الزيدية والشافعية: 


من هنا جائت فكرة التعليم المبني على أساس ديني ، الحق الإلهي للمسلمين على وجه الخصوص ، أساس ينظر بعداء لباقي البشر من الأديان الأخرى بل والمذاهب الأخرى. يكفي أن ننظر إلى الحكم المعاصر لنرى كيف أن السلطة القت بتبعاتها على التعليم في اليمن مؤدية الى تطييفه ومفخخة إياه حتى أصبح حرباً أهلية شاملة ، في القضية اليمنية لدينا إشكاليتان أحدهما طائفية مذهبية وأخرى مناطقية جغرافية وصراع بين فكرين ، الأسلام السياسي والماركسية السياسية ، تعتبر الهوية اليمنية هوية إسلامية محافظة ، هوية تشكلت منذ القدم  من مذهبين ، الزيدية والشافعية ، مناطق الشمال ظلت زيدية فكراً وسلطة ال ما بعد سيطرت الجمهوريين على الحكم عام 1970 بعد مصالحة تاريخية أعقبت حرباً أهلية دامت سبع سنوات بين الإماميين والجمهوريين ، مع أن معظم الجمهوريين من أصول زيدية الأّ أنهم أرادوا الخلاص من الظلم الإمامي وبناء دولة حديثة متاثرين الى حد ما بقومية عبد الناصر الذي تبناهم ودعمهم ، بعد تلك المصالحة سيطر الجمهوريين على السلطة والدولة وبقي الصراع  بين البقاء والإجتثاث المذهلةبي طويلاً ،صراعاً خفياً بين تيار الشافعية لإجتثاث وتضعيف الزيدية وهو الهدف الرئيسي الذي سعى تيار الإخوان المسلمين لتحقيقه طيلة عقود ما بعد ثورة سبتمبر  تحت مبررات حماية مكتسبات الثورة من الزيود والإماميين والحيلولة دون عودتهم للسلطة ، هذه الأحداث أفرزات بعد عقود من الزمن شراكة قوية بين الدين ( الأخوان المسلمين وقبيلة الأحمر ) والعسكر ، عبدالمجيد الزنداني وعبدالله بن حسين الأحمر  من سلطة الدين وعلي عبدالله صالح من سلطة العسكر ، فمن جهة تحكم صالح مدعوما بالعسكر بالسياسات والتامين السياسي والجغرافي فيما قام الزنداني مدعوما بتنظيم الإخوان والقبيلة بتغيير المناهج ونشر الفكر السني وتغيير التوجهات ومنع السربلة في الصلاة وقول آمين بصوت مرتفع بعد الإمام وفتح المعاهد الدينية والتجول في القرى والأرياف لنشر الشافعية على حساب الزيدية ، وهو أمر نجح وبقي سائدا تحت وطاة القوة الى ما قبل عقدين من الأن  ، أسس الأخوان المسلمون في تلك الحقبة المناهج والمدارس والمعاهد العلمية والدينية  بطريقة مذهبية إثنية تقدس المذهب الشافعي وتسيء للمذاهب والأقليات الأخرى ، المناهج والمدارس والمعاهد التي أسسها الأخوان المسلمين ساهمت بحد كبير في تهميش الفكر الزيدي بل وتجريمه وتهويلة الى حد تكفيره وتخوينه وتسميته مجوسي ، والمجوسيين يقصد بها في اليمن أحفاد بن القاسم الرسي الخارج وهي أسرة حكمت اليمن لقرن من الزمن ، أيضا إتجه الأسلام السياسي بقيادة الزنداني الى منع وتحريم بعض الطقوس الزيدية المتعارف عليها في المجتمع اليمني الشمالي مثل عيد الغدير ، واضعين في نفس الوقت الأسر الهاشمية خصوصاً التي كانت تحت رعاية حكم الأئمة تحت المراقبة والتهديد ، المناهج والمعاهد والمدارس عملت أيضا على نشر شعار وفكر الأخوان المسلمين وتعميمة ، شعار الله غايتنا والرسول قدوتنا ، مع فكر الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم الى أستاذية العالم وهو ما يعني الخلافة الإسلامية ، هذه الأصول العشرين من فكرهم صيغت من رسائل مؤسسهم الأول الأمام حسن البناء في القاهرة بمصر.


(2) إشكالية الأسلاميين والماركسيين: 


بعد أن إستتب الوضع السياسي في الشمال لأصحاب فكرة الأسلام السياسي نشأت خلافات بعد تحقيق الوحدة بين الشطرين الجنوبي والشمالي والمجلس الرئاسي بقيادة صالح ونائبه وعضوية الزنداني ، وهي شراكة بين العسكر والأخوان والإشتراكيين  ، في العام 1994 أعلن علي سالم البيض إنفصال الجنوب اليمني أو دولة اليمن الشعبية الجنوبية عن الجمهورية العربية اليمنية معلناً الحرب بين الشطرين ، يومها كانت الشراكة بين العسكر والقبيلة والدين في الشمال قوية لترجيح الكفة ، الى جانب عسكر علي عبدالله صالح أعلن تنظيم الدين السياسي والقبيلة الشمالية النفير العام لمحاربة الماركسيين الخارجين عن الدين ، نفسيراً لقي تجاوباً شعبياً عظيماً في الوسط الشمالي والقبلي خصوصا بعد سنوات من الإعداد والتطييف الممنهج للمجتمع ، إستجاب المجتمع الشمالي للحرب مدعوماً بتأزر شعبي وتضامن عقائدي كبير ، إنتصر تحالف الدين والعسكر والقبيلة على نظام الإشتراكية في الجنوب اليمني وسيطروا على كل شيء سياسي وعسكري هناك ، ودخلوا الجغرافيا الجنوبية كالفاتحين ، من يومها تغير كل شيء في الجنوب وعدن ، سواء فيما يتعلق بالتعليم أو الفكر او السياسة. 


(3) التعليم في الجنوب بعد الحرب: 


يقول الدكتور "حسن الكاف" في مقاله "عدن: صورة باهتة لمدينة فاضلة لم تعد موجودة"

في أربعينيات القرن الفائت وخمسينياته، كانت مدينة عدن قبلة لكل القاصدين من مشارب وجنسيات مختلفة. كان سكان المدينة، “يتعايشون في ما بينهم في سلام ووئام لأنهم كانوا ينظرون إلى الآخر من باب التنوع والتعدُّدية والاختلاف والتعاون والتفاعل. 


بعد الحرب بين الشطرين غرقت عدن بمساجدها وكنائسها ومعابدها، وتعايشها الديني والاجتماعي بين سكانها.

تغير الأمر تماماً، وأصبحت الصورة الباهتة التي آلت إليها المدينة في الوقت الحاضر، أكثر قساوة في ظل تنامي الكراهية والمناطقية على نحو لافت ومفزع. فضلاً عن ذلك، تعاني المدينة من تطرف ديني ومناطقي تغلغل في بنيتها الاجتماعية بشكل جلي. 


بعد ذلك بسنوات كثيرة، بدأت ملامح ظهور جماعات دينية متطرفة وأخذت تنتشر بعد تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990 على نحو تصاعدي واضح، وتم تغيير المنهج التعليمي العلماني السائد في عدن، من قبل سلطة الدين (حزب الإصلاح الإخوان المسلمين) بفعل سيطرته على العملية التعليمية في الدولة الجديدة، وكانت تداعيات ذلك عاملاً لما ستبدو عليه المدينة من تشدد ديني لاحقاً: انتشر التطرف الديني في أوساط معظم شرائح المجتمع في عدن بعد أن كانت مثالاً للتعدد الديني.

لم تكن هوية عدن من قبل على هذا النحو من الحياة اللاغية لهويات الآخرين. 

انتشار التطرف فيها حدث بالتزامن مع تغيير المناهج التعليمية وإختفاء دور العرض (السينما) والمسارح أيضاً، وتراجع ملحوظ في الاهتمام بالفن عموماً إلى حد التلاشي. حتى المتحف الوحيد في المدينة تم تهميشه وتعمد إهلاكه.


(4) إشكالية عودة الزيدية السياسية: 


في سياق ما يقوم به تحالف الدين السياسي (حزب الإصلاح الأخوان المسلمين ) والعسكر (علي صالح ) قاموا -منذ منتصف الثمانينات- برعاية الدعاة السلفيين في اليمن، فافتتحوا عدداً من المدارس والمعاهد الوهابية في المناطق الشمالية الزيدية، لخلق حالة مناعة تمنع وصول أفكار الحزب الاشتراكي في الجنوب، ولردع أي محاولة من النخب الزيدية في الشمال للسيطرة على الحكم. على سبيل المثال، قام أحد أهم أعلام الوهابية في اليمن وهو مقبل الوادعي، بتأسيس مدرسة “دار الحديث” في منطقة “دماج”، والتي تقع جنوب شرق صعدة، للترويج للمذهب الوهابي بعد عودته من السعودية، وذلك تحت رعاية حكومة صالح والإصلاح التي استبعدت الأئمة والدعاة الزيديين من المساجد خاصة في مناطق “حجة” و “ذمار”، ونتج عن ذلك اعتناق  العديد من شباب المنطقة تلك المذهب الوهابي. 

إلا أن صالح وبعد عقود طويلة من تحالفه مع الإصلاح خشي من نفوذهم المتزايد، فاستخدم لعبته التي اعتاد عليها في ضرب الفصائل بعضها ببعض، وسعى للحد من النفوذ الوهابي، من خلال دعم الحوثيين، حتى أنه سمح لحسين الحوثي بالترشح في انتخابات البرلمان عام 1993 كممثل للحزب الحاكم، لكن سياسات حسين المعارضة للحكومة بشراسة، وتّرت العلاقة بين الرجلين، لدرجة اندلاع الاقتتال المسلح.


بعد إندلاع الحرب المسلحة بين الحوثيين من جهة وتحالف صالح والإصلاح مجددا ، حرص إعلام صالح، مع إعلام حزب الإصلاح، على تصوير جماعة الحوثي باعتبارها جماعة إرهابية طائفية تهدد الوحدة الإسلامية،  وبأنها تمثل “مخلب القط الإيراني الشيعي” في جنوب الجزيرة العربية، بالإضافة إلى سعيها لإقامة دولة ثيوقراطية شيعية رغبةً في إحياء الإمامة الزيدية.، كما حرصوا على توظيف الخطاب الديني لتحريض الأصوليين السنة، 

وأصدروا توجيهاتهم لخطباء المساجد ومعلمي المدارس ليُحذروا من خطر الحوثيين ومن مساعيهم لخلق فتنة طائفية تُفتت المجتمع اليمني، ووصفت الحركة بأنها مضادة للجمهورية، وتسعى لاستعادة الإمامة التي كانت قبل 1962، 


(5) أرتباط التعليم بالغايات السياسية. 


بعد بدء نشوب ملامح خلافات في علاقة التجمع اليمني للإصلاح بـ علي عبدالله صالح بعد خوف الأخير من توسع الاصلاح شعبيا وفكريا وسياسيا قام بإجراءات للحيلولة دون ذلك ، أغلق المعاهد العلمية التابعة للإصلاح ، في حركة فاجأت تجمع الاصلاح واغضبته سياسيا من صالح.  قام الاصلاح بناءا عليها بفتح عشرات المدارس الأهلية بطريقة رسمية ظاهرها إستثماري وباطنها عقايدي سياسي في خطوة تعويضية لفقدانهم أهم قطاعات التنشئة التنظيمية للإصلاح ، هكذا ظل قيادات من حزب الإصلاح يتباهون أبن لا شيء يمنعهم من العمل السياسي المرتبط بالدين ، وهذا مما لا شك فيه يجسد كيفية أن المدارس التعليمية لا تفتك تتوقف عن الوسايل السياسية في صناعة الأجيال والقواعد الشعبية بل والحكومات والثورات.


(6) دور التعليم في صناعة التنظيمات السياسية: 


دفعت وعورة التضاريس الجبلية السكان والإنغلاق المذهبي على الذات في صعدة نحو الاكتفاء الذاتي وإنشاء آليات تعليمية مستقلة عن سلطة الدولة أو سيطرتها، وغالباً ما تُوفر ندرة الموارد الاقتصادية أسباباً للتعاون وكذلك الصراع، وتساعد في خلق فرصة سانحة للمؤثرات الخارجية للتلاعب في الجهات الفاعلة في المنطقة من خلال توزيع السلع الاقتصادية والخدمات.


في الواقع، أدى الوضع الجيوسياسي لمحافظة صعدة إلى خلق حدود طبيعية للسكان وفصل بينهم وبين الدولة المركزية، وكانت نتيجة اكتفاء السكان ذاتياً وابتكارهم أساليبهم الخاصة للحفاظ على المحاصيل وإعالة أنفسهم؛ هي عدم وجود الحكومة في حساباتهم كنتيجة حتمية لغياب أي دور لها في حياتهم، وكان لقرب هذه المناطق من المملكة العربية السعودية دوراً في اعتمادها على تحويلات المغتربين التي استمرت حتى قبل عام 1990م، مما سمح للسكان بتطوير مبادرات اقتصادية محلية. أي أن عامل التضاريس في مناطق صعدة، بالإضافة لعدد من العوامل السياسية والاقتصادية، كانت مؤثرة في غياب التنمية الحقيقية والفعالة، وهذا لا يعطي النظام مبرراً لإهماله وضعف دوره من حيث بناء البنية التحتية، والاهتمام بالتعليم والأمن، وتوفير الرعاية الاجتماعية، إذ كان ذلك جزءاً من سياساته التي يتبعها لإدارة البلاد. ولم يقتصر فشل الدولة في مجال التنمية فقط، بل فشلت في بناء مجتمع متماسك بسبب سياساتها وسعيها الدائم لتقسيم المجتمع اليمني، ففي صعدة مثلاً، اتبعت الحكومة سياسة تهميش الزيديين خوفاً من أن يسعوا لاستعادة حكم الإمامة، مما جعلهم يستشعرون معنى أن يكونوا زيديين ودفعهم لتسييس المذهب.

ظلت صعدة لعقود منطوية على ذاتها ، لها منهجها في التعليم وهو الحقيقة احد نماذج الإعداد التنظيمي للأفراد ، حيث إعتمدوا على الزيدية بشكل عام وعلى ملازم حسين بدر الدين الحوثي بشكل خاص في أطار تنظيمي سًمي "الشباب المؤمن" أو ما أسماه بعض قيادات حوثيه إستعادة الزيدية الحقيقية في مواجهة مذاهب التطرف ، إستند الحوثيين لعقود من الزمن على التعليم في تشكيل تنظيم كبير إستطاعوا به إقامة ثورة إنتهت بإنتزاع السلطة في صنعاء من العام 2014 بالقوة. 

لم يكن ذلك ليتحقق لو لم يظل التعليم في صعده منساقاً لتيارات مذهبية. 


(7) التعليم في عهد صالح: 


المؤسسة التعليمية في عهد حكومة علي عبدالله صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام بنيت في سياقات متعددة لخدمة الحزب الحاكم ، تم خلالها تسخير كل الأمور المتصلة بالتعليم لخدمة الحزب والسياسة ، وما يعزى لصالح أنه إبتعد عن محاولة مذهبة التعليم لكنه ترك ذلك لشركاؤه الإصلاحيين ، التعليم في عهد صالح إكتسب عدة خصائص أهمها التقاسم الإداري للمدارس بين حزبه وحزب الاصلاح خصوصا في سنوات الحكم الأخيره ، أيضا ما يعزى لصالح في سياق السيئات أنه ترك حابل التعليم على الغارب ، فالإصلاح أسس مدارسه الخاصه ومناهجه الخاصه وزيه الخاص ، كذلك السلفيون أسسوا مدارس الخاصة وزيهم الخاص كمدرسة أبن الوزير التي كان طلابها يدرسون فيها بالطريقة السنية الوهابية ، مرتدين ثوباً قصيرا ومنهجا مستوحى من تراث أبن تيمية المتشدد ، وهنا سأذكر بعض خصائص تميزت بها طريقة ومؤسسة صالح في تسييس وتطييف التعليم ، التطييف السياسي على حد سواء. 


- إدماج العمليات الإنتخابية والتسويقية في المدارس والطلاب وإستخدام الطلاب للمهرجانات الإنتخابية والسياسية وإستغلال المنصة المدرسية للتحريض السياسي والتخويف المذاهبي من تيارات سياسية ومذهبية. 


- إدماج الطلاب في العمليات السياسية عبر إلزام الطلاب على قطع بطائق إنتخابية وحزبية. 


- إستخدام الوظيفة العامة في المؤسسة التعليمية بالإبتزاز السياسي عبر أجبار المعلمين والمدرسين على الإنتماء السياسي للحزب الحاكم ومن يعارض يعرض نفسه ووظيفته للتهديد. 


- طريقة التوظيف المدرسي بنيت على أساس الولاء الحزبي في كثير من التسجيلات ، وعليه أصبح وكلاء المدارس ومدراءها ومدراء المكاتب والمناطق التعليمية أشخاصاً حزبيين لا تربويين.


تجريف وتفخيخ التعليم والهوية: 


في فيديوهات كثيرة وحديثة يظهر أطفال في مدارس وهم يصرخون بشعارات سياسية وعدائية في صعدة وصنعاء وعمران وحجة  ، شعارات خاصة بتنظيم الحوثيين ، يرددون الشعارات بطريقة تشبه الى حد كبير شعارات الأخوان المسلمين في حقبة الثمانينيات والتسعينيات إبان ذروة سيطرتهم السياسية ، يقول شعار الحوثيين الله أكبر الموت لأمريكا ويقول شعار حزب الإصلاح  (الأخوان المسلمين) الله غايتنا والرسول قدوتنا ، شعاران لا يختلفان في مضمونهما وهدفهما التنظيمي العقائدي السياسي البعيد. 

وفي بعض المدارس بصنعاء أقحموا السياسة والحرب والمذاهب في المناهج والدروس والواجبات والأختبارات ، مثلاً في أحد الإختبارات التي بين يدي وهو تابع لمعهد الشوكاني بصنعاء توجد أسئلة ليست من صميم المناهج والدروس ، أسئلة مرتبطة بالواقع السياسي والحرب الراهنة ، أيضا أقدمت سلطة الحوثيين على تعيين الأخ الشقيق لقاذد الجماعة في منصب وزير التعليم في خطوة منهجية لما يكنه التعليم من أهمية قصوى في تغيير الموازين ، كما أتهم معارضون وسياسيون كثر سلطة الحوثيين بتغيير المناهج التربوية واستبدالها بأفكار ومعتقدات ودورات ثقافية تتبع الجماعة عقائديا وهذا يرونه في سياق التطييف العلني والتحريف الديموغرافي للمجتمع والهوية اليمنية ، صانعين بذلك أجيالاً مفخخة ومجرفة تكره كل ما ينتمي للمذاهب الأخرى ، مذاهب السنة وما اليه. 


وعلى صعيد أخر يسيطر تيار الأخوان المسلمين او حزب الإصلاح ومجاميع سلفية أخرى في محافظة تعز ومأرب ، وبالمقابل يعكف حزب الإصلاح في مناطق نفوذه على أخونة التعليم والسيطرةعلى العملية التربوية والتعليمية وتغيير هويتها من خلال إستبدال المدرسين والموظفين وفقاً لرؤيتهم التنظيمية الخاصة وهو ما يشبه تحويل التعليم الى قطاع حزبي متصل بالتنظيم صانعين بذلك أجيالاً مفخخة تكره كل ما له علاقه بالحوثيين او الزيديين. 


 في عدن أيضاً إعتمد التعليم في الفترات الأخيرة على أساسات مناطقية مستوحاه من ضرورة إستعادة الدولة والمجد الجنوبي الجديد ، صانعين بذلك أجيالاً مفخخة تكره كل ما ينتمي للجغرافيا الشمالية. 


حرب الأجيال المفخخة: 


بالمعنى الأخلاقي، يمكن فعلاً المساواة بين جميع الفاعلين في تطييف التعليم وهو بالضرورة تفخيخا للأجيال، حيث يتساوى بذلك الأخوان المسلمين (حزب الإصلاح) مع تنظيم الشباب المؤمن (الحوثيين ) ويتساوى نظام علي صالح ونظام علي سالم وتتساوى الأثار الناجمة من كل ذلك لكننا نتفق أيضاً على أن هذه الحرب الأهلية القائمة ما كانت لتحدث لو أن التعليم بقي محايداً.

المساواة الأخلاقية الصحيحة نظرياً، تحيد وتغيب مفاعيل القوى الفاعلة على الأرض، والآثار السياسية والعسكرية المترتبة عن تطييف التعليم ، كما يترتب عنها نتائج غاية في الكارثية في الأحكام والبعد عن العدالة والحق في الواقع ، بيد أن الواقع ما كان ليتشكل بهذا الشكل المتشظي لو كان لدينا منظومة تعليمية عملاقة لا تتأثر بنوائب الدهر وتقلبات الزمن وإستغلالات القوى المسيطرة على السياسة والجيش. 

نحن نعيش فترة دفع الثمن كما يقول الياباني فكتور شيا لأننا حكوماتنا ببساطة لم تهتم بالتعليم وبالأصح لأنه ليس لدينا نظاماً تعليمياً حديثاً.

هذه الحرب أو مرحلة دفع الثمن ، مرحلة حرب الأجيال المفخخة إستمرت عقود لإعداد مجنديها ، مجندين إستقطبتهم من المدارس ومن الراكز الدينية ، وظلت لعقود تحشو أدمغتهم بفكرها وطريقتها نحو السلطة ، ومرت السنين وأصبحت الإستعدادات والتحضيرات والتفخيخات واقعاً يعيشه كل الناس ، واقعاً تشوبه حرب من جميع الإتجاهات ، حرب الأجيال المفخخة لا تبقي ولا تذر.

 

لقد تشابهت معظم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي صنعت هذه الحرب وهذا الواقع الكارثي، تماما مثلما تشابهت بنية الأنظمة التسلطية إلى حد كبير في بلدان الشرق الأوسط ، سوريا والعراق ولبنان.


خاتمة… 


إن مسؤولية تطييف الحرب وتطييف الحياة اليمنية بشكل كامل، ومسؤولية انسحاب الناس إلى طوائفهم ومناطقهم وإثنياتهم أو حقدهم وطائفيتهم تجاه الأخرين، ومسؤولية تحويل القضية اليمنية إلى قضية نزاع أهلي وطائفي بأبعاد إقليمية ودولية، جميعها تعود لأساس واحد، هي المنظومة التعليمية المبنية على الطائفية والعنصرية والمناطقية ، كرة الثلج تدحرجت كثيراً وكثيراً عبر عقود حتى صارت خليطاً قاتلاً يتداخل فيه القتله مع الوطنيين مع الضحايا والمظلومين ، بل وجميعهم يتبادلون الأدوار فيه ولا تكف الدائرة عن التوسع والكرة عن التدحرج   حتى أصبح التضخم في الأقليم والعالم 


هذا التضخم في المحصلة لا ينتج حلولاً حقيقة قريبة وقابلة للحياة بقدر ماهو تجذيراً لمشلكة الطائفية والإرهاب في واقعنا اليمني والعربي ، لا حلولا جديدة لمشكلة الطائفية والإرهاب دون البدء بتأسيس منظومة التعليم العملاقة التي لا يملك سلطانها أحد ، منظومة منبعها الشعب والمستقبل ، ومنهجها علمي بحت غير مرتبط لا من قريب ولا من بعيد بالمذاهب والمناطق والأشكال الطائفية الأخرى ، تعليما منحدراً من منطلقات الديموقراطية والتعايش وجميع القيم السياسية والإنسانية والحضارية.



ماجد زايد

25.مارس.2019

تعليقات