مات رجل من مدينتنا، مات واحد من شعب التائهين في الطرقات، مات أخر صباحات المشردين والكلاب الحزينة، مات جائعًا، باردًا، مريضًا، ووحيدًا بلا أقرباء، مات وترك خلفه صورة واحدة فقط لكنها تحكي كل شيء، وتخلد ذكراه وحكايته لما وراء الأبد..!
كان هذا الإنسان طيلة حياته يتجول في الشوارع مع رفاقه الكلاب، كان الأخرين يطلقون عليه فاقدًا للعقل، لم يكونوا يعلمون أنه أعظم العارفين..! قضى حياته وحيدًا بلا أهل، بلا وطن، بلا رسول، بلا حياة، وبلا بداية أو نهاية، مرت الأيام عليه وتغيرت الأعوام كثيرًا ووهبه الزمان رفاقًا أوفياء من سلالة المهاجرين والأنصار، كان يصحو باكرًا ليطعمهم، ويجلب رزقهم من اللاشيء، يجلب أكلهم وشرابهم طيلة سنين، كان نشيطًا، مكابرًا، طيبًا، وقلبه البشري يشبه قلب سيدنا الكريم، كان يسير كل يوم في الشوارع والطرقات، قليلًا ثم يجلس، ثم ينهض، ثم يسير مجددًا ورفاقه بجانبه لا يلبثون قليلًا حتى يسرعون للمشي بجواره، كانوا يتباهون بصديقهم الوحيد والوفي وربما الأخير، كانت الكلاب تسير مع خطواته وتعرجاته كطفل يساير أباه، يتقمص دوره، يحبه ويخاف عليه، وهو في الأثناء يتخيلهم كـ أبناءه وعياله، أبناءه الذين تخلوا عنه منذ زمن، كان يحبهم بالفعل ويشتاق اليهم ويخاف منهم وعليهم، ويتذكرهم أخر الليل كل يوم، كان يتذكرهم حينما خانوه وتركوه مشردًا في الأرصفة والمتاهات، حينما تخلوا عنه وتبرأوا من صلتهم به، كان يعرف ماحدث، وكيف حدث، ولماذا حدث، لكنه يتجاهل الحزن ويدعي الجنون..! لا خيار أخر عدا إدعاء الجنون في عالم المجانين..! كان لايزال يتذكر جيدًا أين يعيش أبناءه وعياله، لكنه يخاف من تخليهم عنه مجددًا، يخاف من إستحقارهم له مرة أخرى، لا يسع القلب الموت مرتين..! هكذا كان يقول في قلبه حينما يشتاق اليهم ويخاف منهم، ولا يريد العودة أبدًا، كان كبرياءه في القلب يتلاشى مع الزمن بالتدريج وتوهجه ما عاد بذلك الخفقان، لكنه يأبى أن يكون عبئًا حقيرًا على أحد..!
كان قد حصل بالشارع على أسرة جديدة ووفيه وعيال مطيعون أنقياء، ووطن لا ينتهي من الطرقات والممرات والميادين الكبيرة، كان يتحدث الى رفاقه الكلاب كل يوم قبل النوم، كان يحكي لهم عن شبابه وزوجته وبيته القديم، عن معسكره البعيد وأصدقاءه القداما، عن عقوبات الفندم -محمد ناصر-، عن سخريتهم منه وخوفهم منه وحبهم الكبير له، كانوا يقضون أيامهم في المعسكر ينتظرون المعاش ليعودون الى البيت، هذا فقط، كانوا يعودون بشغف لا ينتهي وبحر هادر من الأشواق والحكايات، يعودون من المعسكر ليشترون لأبناءهم ملابس العيد وجعالة العيد، كانوا وكانوا وكانوا، وكان يبكي دائمًا بالليل أذا تذكر أبناءه، ثم يعود ويضحك من ذكريات أصدقاءه في المعسكر، كان يحب الجميع ويتذكرههم ويخاف عليهم، كانت هذه الكلاب تفهمه وتحبه وتنام بالقرب منه، كان دفئًا ووطنًا وأمانًا وسلامًا عليها، كانوا بالفعل يخافون على بعضهم، وطيلة سنين يتحدثون كالمجانين في غرف الوطن الكبير، وطن المشرين والمجانين والكلاب الضالة، كانوا مجانين في الطرقات والميادين والجولات والأسواق المزدحمة، كانوا يجلسون مع بعضهم دائمًا، ويتجولون ببعضهم كل يوم، ويضحون لأجل بعضهم ويبحون عن بعضهم في كل مرة يزداد توهانهم أكثر..!
كانت حياته فقيرة ومشردة ووحيدة لكنها سعيدة، كان يدرك هذا ويصر عليه، كان قد عرف بالفعل غاية الكون وغاية البقاء وغاية الضمير، عرف كل شيء وفهم كل شيء وتجاهل كل شيء وعمل بناءً على دلك،
هكذا يصبح من أحب الشيء وعاش في سبيله..!
كان الشارع بيته ووطنه ومملكته الأخيرة، والكلاب عياله وأبناءه وأسرته الوحيدة، والسماء سقفه وستارته ومثواه الأخير..!
كان واحدًا من شعب المشردين، جزءًا كبيرًا من هويات التائهين والمتروكين، نموذجًا دائمًا عن تشردنا وبؤسنا الكبير..!
كان نحن في أصدق عبارات البقاء والخلود..!
كان هذا نحن وكان أبونا جميعًا، ودموع كلابه وأوفياءه دموعنا نحن وحزننا نحن وذكرياتنا نحن، ونحن هذه اللوحة وخيوطها المنسوجة من بؤس العالمين..!
نحن كل هذه الكتابات الحزينة في هذه الصورة الأخيرة..!
ونحن الكلمات الأخيرة لنبي المشردين قبل تركه لكلابه..!
ونحن الرعشة الأخيرة بقلب غاندي قبل أن يموت مشردًا مع كلابه..!
نحن قاطنوا العشوائيات الفقيرة من الحب والوطن، العشوائيات المزينة بالكذب والنفاق والكثير من الأوغاد..!
ونحن هؤلاء السائرون في الطرقات بلا أم وبلا حكايات قديمة..!
ونحن أيضًا أصحاب الأدمغة العتيقة، الأدمغة التي تعجز كل مخدرات العالم عن تهدئتها من الحزن في هذه الصورة..!
ونحن بالفعل من لا يهتم لهم أحد، لكنهم أيضًا لم يعودوا يهتمون لأمر أحد..!
ونحن هؤلاء المنسيون المشردون بينما يعيشون حياتهم بصمت ويغادرون رفاقهم بصمت، وفي الصباح الأخير لم يبك عليهم أحد غير هذه الكلاب الحزينة..!
عليك السلام يا نبينا الأخير..!
كان هذا الإنسان طيلة حياته يتجول في الشوارع مع رفاقه الكلاب، كان الأخرين يطلقون عليه فاقدًا للعقل، لم يكونوا يعلمون أنه أعظم العارفين..! قضى حياته وحيدًا بلا أهل، بلا وطن، بلا رسول، بلا حياة، وبلا بداية أو نهاية، مرت الأيام عليه وتغيرت الأعوام كثيرًا ووهبه الزمان رفاقًا أوفياء من سلالة المهاجرين والأنصار، كان يصحو باكرًا ليطعمهم، ويجلب رزقهم من اللاشيء، يجلب أكلهم وشرابهم طيلة سنين، كان نشيطًا، مكابرًا، طيبًا، وقلبه البشري يشبه قلب سيدنا الكريم، كان يسير كل يوم في الشوارع والطرقات، قليلًا ثم يجلس، ثم ينهض، ثم يسير مجددًا ورفاقه بجانبه لا يلبثون قليلًا حتى يسرعون للمشي بجواره، كانوا يتباهون بصديقهم الوحيد والوفي وربما الأخير، كانت الكلاب تسير مع خطواته وتعرجاته كطفل يساير أباه، يتقمص دوره، يحبه ويخاف عليه، وهو في الأثناء يتخيلهم كـ أبناءه وعياله، أبناءه الذين تخلوا عنه منذ زمن، كان يحبهم بالفعل ويشتاق اليهم ويخاف منهم وعليهم، ويتذكرهم أخر الليل كل يوم، كان يتذكرهم حينما خانوه وتركوه مشردًا في الأرصفة والمتاهات، حينما تخلوا عنه وتبرأوا من صلتهم به، كان يعرف ماحدث، وكيف حدث، ولماذا حدث، لكنه يتجاهل الحزن ويدعي الجنون..! لا خيار أخر عدا إدعاء الجنون في عالم المجانين..! كان لايزال يتذكر جيدًا أين يعيش أبناءه وعياله، لكنه يخاف من تخليهم عنه مجددًا، يخاف من إستحقارهم له مرة أخرى، لا يسع القلب الموت مرتين..! هكذا كان يقول في قلبه حينما يشتاق اليهم ويخاف منهم، ولا يريد العودة أبدًا، كان كبرياءه في القلب يتلاشى مع الزمن بالتدريج وتوهجه ما عاد بذلك الخفقان، لكنه يأبى أن يكون عبئًا حقيرًا على أحد..!
كان قد حصل بالشارع على أسرة جديدة ووفيه وعيال مطيعون أنقياء، ووطن لا ينتهي من الطرقات والممرات والميادين الكبيرة، كان يتحدث الى رفاقه الكلاب كل يوم قبل النوم، كان يحكي لهم عن شبابه وزوجته وبيته القديم، عن معسكره البعيد وأصدقاءه القداما، عن عقوبات الفندم -محمد ناصر-، عن سخريتهم منه وخوفهم منه وحبهم الكبير له، كانوا يقضون أيامهم في المعسكر ينتظرون المعاش ليعودون الى البيت، هذا فقط، كانوا يعودون بشغف لا ينتهي وبحر هادر من الأشواق والحكايات، يعودون من المعسكر ليشترون لأبناءهم ملابس العيد وجعالة العيد، كانوا وكانوا وكانوا، وكان يبكي دائمًا بالليل أذا تذكر أبناءه، ثم يعود ويضحك من ذكريات أصدقاءه في المعسكر، كان يحب الجميع ويتذكرههم ويخاف عليهم، كانت هذه الكلاب تفهمه وتحبه وتنام بالقرب منه، كان دفئًا ووطنًا وأمانًا وسلامًا عليها، كانوا بالفعل يخافون على بعضهم، وطيلة سنين يتحدثون كالمجانين في غرف الوطن الكبير، وطن المشرين والمجانين والكلاب الضالة، كانوا مجانين في الطرقات والميادين والجولات والأسواق المزدحمة، كانوا يجلسون مع بعضهم دائمًا، ويتجولون ببعضهم كل يوم، ويضحون لأجل بعضهم ويبحون عن بعضهم في كل مرة يزداد توهانهم أكثر..!
كانت حياته فقيرة ومشردة ووحيدة لكنها سعيدة، كان يدرك هذا ويصر عليه، كان قد عرف بالفعل غاية الكون وغاية البقاء وغاية الضمير، عرف كل شيء وفهم كل شيء وتجاهل كل شيء وعمل بناءً على دلك،
هكذا يصبح من أحب الشيء وعاش في سبيله..!
كان الشارع بيته ووطنه ومملكته الأخيرة، والكلاب عياله وأبناءه وأسرته الوحيدة، والسماء سقفه وستارته ومثواه الأخير..!
كان واحدًا من شعب المشردين، جزءًا كبيرًا من هويات التائهين والمتروكين، نموذجًا دائمًا عن تشردنا وبؤسنا الكبير..!
كان نحن في أصدق عبارات البقاء والخلود..!
كان هذا نحن وكان أبونا جميعًا، ودموع كلابه وأوفياءه دموعنا نحن وحزننا نحن وذكرياتنا نحن، ونحن هذه اللوحة وخيوطها المنسوجة من بؤس العالمين..!
نحن كل هذه الكتابات الحزينة في هذه الصورة الأخيرة..!
ونحن الكلمات الأخيرة لنبي المشردين قبل تركه لكلابه..!
ونحن الرعشة الأخيرة بقلب غاندي قبل أن يموت مشردًا مع كلابه..!
نحن قاطنوا العشوائيات الفقيرة من الحب والوطن، العشوائيات المزينة بالكذب والنفاق والكثير من الأوغاد..!
ونحن هؤلاء السائرون في الطرقات بلا أم وبلا حكايات قديمة..!
ونحن أيضًا أصحاب الأدمغة العتيقة، الأدمغة التي تعجز كل مخدرات العالم عن تهدئتها من الحزن في هذه الصورة..!
ونحن بالفعل من لا يهتم لهم أحد، لكنهم أيضًا لم يعودوا يهتمون لأمر أحد..!
ونحن هؤلاء المنسيون المشردون بينما يعيشون حياتهم بصمت ويغادرون رفاقهم بصمت، وفي الصباح الأخير لم يبك عليهم أحد غير هذه الكلاب الحزينة..!
عليك السلام يا نبينا الأخير..!
تعليقات
إرسال تعليق