لعدة أيام أقرأ وأتتبع حياة الدكتور عبدالكريم الإرياني، من زاوية الى أخرى، ومن خيال الى خيال الى عالم حقيقي، من البدايات والتحديات، الى الثنايا والتجارب والإنجازات، مرورًا ووصولًا الى النهايات والمحاولات الأخيرة، الرجل المبتسم والدبلوماسي الذكي، رجل السياسة والدبلوماسية والزراعة والكيمياء وروح الوطن الواقف كدولة ومؤسسات، الأكثر دهاءً وفهمًا في مسيرتنا وتاريخنا، المنصف الشجاع والمشرح الجراح واللاذع الحكيم، الرجل الذي أزاح الكهنة والمشعوثين عن الواجهة والسياسة وأغلق عليهم داخل سور كبير من الخرافات والأتربة والقاعات الركيكة من الأفكار والإختراعات المزيفة..!
كان الإرياني فيلسوفًا في معظم الأحوال والقضايا، فيلسوفًا يسير مع السياسة بخطوط متوازية تؤثر كلاهما على الأخرى لكنهما بالمطلق لا ينصهران ببعضهما طويٍلًا، ففي ذلك الوقت الذي إنصدمت فيه الفلسفة السياسية للإرياني بأفكار المتدينيين حول نقطة البحث عن منطلقات السياسة وغاياتها الحقيقية، كان الإرياني مهتم بتحليل ما تلقيه الحياة السياسية من مشكلات تستعصي على الفهم والحل، ساعيًا لإنشاء وإصلاح الواقع والشكل السياسي اليمني العدمي والجنوح به إلى المثالية والكمال، ولو بأقل الصور والأشكال، بينما السياسة البدائية والسياسيون المتدينون في المجتمعات الثالثة بُعيدون كليًا عن الأطر الأولية والنظريات السياسية لهيئة الدولة والمستقبل ويتعاملون مع الواقع بناءًا على الأهواء والأخطاء وااشكوك والإتهامات والمصالح، ودوافعهم فيها لا تتعدى السير على نهج المصلحة وأطماعها ونزعاتها السلطوية..!
لم يكن الإرياني مجرّد مهندس زراعي أو حاملًا لدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة أميركية. كان أهم من ذلك بكثير، كان ديناموا من الأفكار والعمل، كان سياسيًا إستثنائيًا يصعب على الأخرين بأعدادهم وتكتلاتهم شغل مكانه، لقد ترك بالفعل فراغًا كبيرًا في واقع اليمن والإقليم العربي والإسلامي، فراغًا أطلت أثاره على اللاحقين من بعده، فراغًا لم يكن نتيجة غياب الأفكار المستمدة من الطابع الليبرالي، بقدر ما كان كنتيجة لإستثنائية الرجل السياسي الفيلسوف، المرن، الواقعي، والمثقف العربي الإسلامي بهذا الزمن على وجه الخصوص..
عبدالكريم الإرياني صنع واقعًا سياسيًا للجمهورية اليمنية إنطلاقًا من السبعينات وما بعدها، وتقريبًا إرتبط ذكره وأثره بمعظم أحداث الوطن وعقوده المتلاحقه، في حرب أربعة وتسعين بين شطري اليمن إستطاع تحييد العالم ومجلس الأمن وضمن لهم نتائج الأحداث القريبة، وبالفعل وثقوا بالرجل وكانت النتائج بذلك الشكل الذي تحدث لهم عنه، بعدها شارك في تشكيل الأحزاب السياسية المختلفة، المؤتمر والإصلاح، كإحياءً للنظم السياسية والأجواء المثالية، شارك بارائه في تأسيس حزب التجمع اليمني للإصلاح ودعاه في كل مرة للإنخراط ضمن الهوية اليمنية الخالصة والنأي بحزبهم عن حركة الإخوان المسلمين، لكنهم مؤدلجين أكثر ويتعاملون مع هوية وطنهم بشكل أقل وأنقص من مراتب الكفاية والإكتفاء، بعدها حذرهم من تطويع الحزب السياسي لإرادة القبيلة، حذرهم مرارًا من مصادرة القبيلة لحزبهم، وبشكل أخر للحيلولة دون مصادرة حركة الإخوان المسلمين للقبيلة وإفراز كتيارات موازية لشكل الدولة، وهو ما حدث بعدها في شكلين، أحدهما تنظيمًا سياسيًا للأخوان وأخر تنظبمًا حوثيًا موازيًا للدولة وخارجًا عليها، هذه المألات جميعها نتاج حقيقي لمخاوف حذر منها الإرياني منذ عقود لكنها حدثت رغمًا عن كل المحاذير، وها نحن اليوم مجرد ضحايا لسقوط مشروعية الدولة ومصادرتها على الشعب وإرادته..
كان الإرياني سياسيًا دوافعه أخلاقية وخياله يبحث دائمًا عن الحقيقة وإصلاح الواقع جانحًا الى النظر والتجارب المثالية الأخرى، في واقع سياسي مضطرب بما يحويه من دسائس ومكائد وفساد وتسلُّط واستبداد، ولطالما اشتكى من تجبر وطغيان السياسيين وتشويههم لظاهر الدولة ومؤسساتها، كان يشبه جان روسو أبرز فلاسفة التنوير الفرنسي المحذر دائمًا من شرور الحياة السياسية، والمدرك والعارف بما تخفيه تتابع الأحداث السياسية، كانت ممارسات الحكم والسلطة تتعارض تماماً مع مفهومه الخاص لحرية التنظبمات المنتهكة لسيادة الوطن، كان يرفض فكرة أن السياسة قائمة على رؤية الجماعات وأحقيتها بالفعل السياسي، في تصادم واضح مع فكرة الحرية التي تسوق لها الجماعات ضمن كيان الدولة الضامنة لهم، الفكرة المبنية على الرؤية الذاتية المحضة للفرد، وهذا التناقض ما جعله يتصادم مع المعارضين المنتمين لهويات خارجية..
في أحد لقائاته إستدل ببعض أراء يورجن هابرماس التي يقول فيها: أن الحاكمية المنطلقة من الفهم والفلسفة غاية لا تدرك، لأن صلاح النظم الاجتماعية والسياسية لا يتم إلا بالجمع بين الفضائل الأخلاقية والمنفعة الاجتماعية، أما إفراغ السياسة من غاياتها ومثلها النبيلة فسيؤدي لا محالة إلى شيء مخيف، فالسياسة مفهوم شامل يضم جملة من المعاني من بينها علم الدولة وفن الحكم والقيادة وتدبير شؤون المجتمعات وهي أمور لا تجتمع إلا لفيلسوف، لكن واقع الحال يقول غير ذلك..
كل هده الأفكار والتجاذبات المرتبطة بالسياسة ساهمت في خلق عداء جماعاتي للإرياني، ففي حين قضى تجمع الإصلاح بشخصياته المتطرفة عقوده محذرًا من العلمانية ورجلها في اليمن، ختم الحوثيون الحكاية وحاولوا إذلاله عند مغادرته لليمن بعد سيطرتهم على السلطة، يومها حاولوا تفتيش حقائبه وتوقيفه وتأخيره والتعرض له، بعدها إقتحموا منزله وعبثوا به، مبررين ذلك بتهم الخيانة والإرتزاق، بعد لحظات من مغادرته قال عنهم لأحد الذين غادروا معه: إنهم أشدّ خطرا على اليمن من الانفصاليين..
وفي خلاصة حياته، نجح الإرياني في تخليد حياته فينا، إنطلاقًا من الزراعة والخارجية ورئاسة الحكومة، حينما كان وزيرًا للزراعة منع إستيراد الفواكة والخضروات وعمل على الإكتفاء الذاتي، ونجح في ذلك بشكل غير مسبوف، وفي فترتيه المختلفتين لرئاسة الحكومة نجح في إيجاد شكلًا عامًا لمؤسسات الدولة، وفي الخارجية كانت أكثر إنجازاته الحقيقية، فبعد تحسين صورة اليمن أمام المجتمع الدولي إبان حرب الإنفصال وحيلولته ضد إدانة اليمن أنذاك بقرار من مجلس الأمن، نجح أيضًا في تفادي نتائج تفجير المدمرة الأمريكية كول في موانئ عدن، والأهم من هذا كله طريقة تعاملة مع فتيل الدعوات لحرب مع إرتيريا إبان سيطرتها على جزيرة حنيش اليمنية، في تلك الفترة كان الزنداني وتنظيمه الديني يسعى ويريد الدعوة للنفير العام والجهاد ضد إرتيريا، كانوا لا يعرفون شيئًا من السياسة غير الجهاد، يومها لجأ الإرياني للمواجهة الدبلوماسية مع أريتريا عبر طلب اليمن التحكيم الدولي في القضية، وبالفعل إستعاد اليمن حقوقه وجزيرته وفوّت عن كاهلة حربًا كانت بكل التأكيدات حربًا خاسرة...!
هذا الدكتور عبدالكريم الإرياني، في خلاصة أراها ما زالت مختصرة وموجزة عنه، لكنها محاولة للتذكير ببعض واجهاتنا السياسية على مستوى العالم، لنقول شيئًا واحدًا لا يتجاوز كوننا شعبًا لديه الأكفء والأكفء والأكف..
الأكفء الذي يعرف متى يأتي ومتى يغيب، متى يستقيل ومتى يعتزل ومتى يعود، وفي كل مرة يعرف واجباته ودوافعه الأخلاقية، دوافع تجعله يعود بعد إعتزاله وإنكفاءه، ليس لشيء، فقط لأجل سلامة الشعب المهدور بلا أمال أو حلول..!
الجدير ذكره هنا، أن الإرياني كان قد إعتزل العمل السياسي، لكنه عاد ليقضي سنواته الأخيرة محاولًا إيجاد معجزة للنجاة والعبور، وفي طريقة النبيل هذا خانه القلب وإنطفئ عليه الفؤاد من هوّل ما كان يحمله ويحاوله ويسعى لخلقه من جديد.
لكنه باقٍ في ذاكرتنا لليمن، كأعظم من مروا، ومن صنعوا ومن قامت على أكتافهم أحلامنا..
له المجد والذكرى والخلود..
ماجد زايد
https://www.facebook.com/100003161868147/posts/3633319153450111/
تعليقات
إرسال تعليق