عن #علي_عبدالله_صالح .. عن ذاكرتنا جميعًا..

كان الوقت حينها منتصف الليل عندما مررت بجوار بوابة طوارئ مستشفى الثورة العام بصنعاء قبل عام تقريبًا، كان هناك ثلاثة مرضى ملقيين على الارض مع مرافقيهم وأوراقهم وأكياسهم المنهكة من شقاءهم الأبدي، كانوا يرفعون أيديهم ويصيحون بحماسة.. في البدء لم أميز الصوت، إقتربت أكثر.. كانوا يقولون بـ بحة المقهورين من اليأس في زمن اللآرجوع: الله يرحم الزعيم، الله يرحمك يا زعيم، الله يرحمك يا علي عبدالله صالح، ماعدبش مستشفيات ولا انسانية ولا دكاترة، ولا عد حد يعين حد، الله يا زعيم يرحمك.. كانت إحدى المرافقات تردد معهم الدعاء بخجل وهي متكئة على عكازة زوجها المكسور، كانوا يعكسون صورة حقيقية عن قناعات الناس وذكرياتهم عن علي عبدالله صالح، الرئيس اليمني السابق، أتذكر هذا جيدًا، يومها كتبت عن الأمر في صفحتي بذلك التوقيت وختمته بالقول: أنا مجرد ناقل لما حدث ليس الاّ..!

يتذكر اليمنيون رئيسهم السابق كـبطل قديم، كـخرافة ومعجزة وحكاية لا تتكرر دائمًا، خرافة من زمن المنقذين، ومعجزة عن أولئك القادة المخلصين، هذه حقيقة، ولو طلبتم الدليل أخرجوا بأنفسكم وتجولوا في شعاب الوطن الكبير، في ريفه وسهوله ووديانه، في أرجائه وتضاريسه ورحابه البعيدة، علي عبدالله صالح لم يمت هاربًا، هكذا يعرف الناس عنه، لم يبع وطنه منذ البداية، لكنه قالها وفعلها، وقبلها طلب المسامحة من اليمنيبن ثم أخذ البندقية وتقدم، كان يومها وحيدًا يقاتل بسلاحه ورفيقه ورأسه، وحين إقترب منه الأجل إختار الشهادة، كانت قناعته منذ البداية، قناعته التي رفض مقابلها الخروج أمنًا من البلد، كان دائمًا يذّكر العالم بإنتمائه للوطن، بحميريته ولقبه الحقيقي، رافعًا يديه، ملوحًا للمحتشدين في حضوره، هكذا في كل مرة..

حين غادر البلد مقتولًا ومحروقًا ومغدورًا، لم ينسَ شعبه، بعد ساعات فقط عاد من ألمه وخرج يحدث الشعب.. إطمئنوا، إطمئنوا، أنا بخير، أنا بخير..! قال يومها لنجله الكبير أمام الشعب: إياك أن تفعل شيئًا، إياك أن تطلق رصاصة واحدة ردًا على قصفنا في مسجد الله ويومه الكريم، -كنت أتسائل يومها لو كان نجله هذا قائدًا ينتمي لمذهب الأخربن- هل كان سيحرق البلد فقط؟! لكنه لم يخرج بفعل واحد وهو قائد الجيش…!! غادر صالح بعدها للعلاج وهو في أسوء ما يمكن للإنسان أن يشعر به من أشد الحروق ولعنة الغدر والخيانة، كان يظهر بين فترة وأخرى ليتحدث، كانت يداه المحروقتان ترتعشان من الألم لكنه مكابر في مكانه يخاطب الشعب والجماهير ويقنع الشباب الخارجين مع خصومه بـ كفى، قالها وكررها الف مرة، هؤلاء الخصوم سياسيون أعرفهم يريدون السلطة فقط، يريدونها وحدها صدقوني، لم يستمع له أحد، كان الغرور قد ملئ الرؤوس وغشي الأبصار وأعمى القلوب التي في الصدور، عصبوا على رؤوسهم وقناعاتهم وذهبوا يهدمون مؤسسة تلو أخرى حتى وقعت الكارثة، وها نحن ذا نكتوي جميعنا من نارها المتزايدة..!

في أحد الفيديوهات لـ علي عبدالله صالح، كان يظهر ببزته العسكرية وهو يلقي كلمة في أحد المعسكرات اليمنية القديمة، كان يقول بكبرياء:
دولة أل سعود الرجعية ودولة بن زايد المجنون لن يتركونا في حالنا...!

كان صادقًا وشجاعًا وسياسيًا ماكرًا، كان يعرف ما يدور أو ما يحاك، ولطالما قال للشعب ماذا سيحدث بعدها، وكيف ستصير الأمور، لم يكن الأمر ترتيبات وتحضيرات، كلا، كان يعرف جيدًا رؤوس الأفاعي الكبيرة في البلد، كان صخرة من العناد أمام الثعابين المتراقصة في داخل البلد، صخرة أزالوها وهربوا ثم هزموا، وبعدها لدغ الشعب من جحره الف مرة، وهاهو اليوم يلدغ..! 

أتذكره جيدًا، خلال القمة العربية بمدينة سرت الليبية خاطب علي عبدالله صالح الرؤوساء والملوك الحاضرين، خاطبهم وخلفه الكثير من الليبيين في مدرجات القاعة يستمعون لشيء ما جديد، شيء ما قد يحدث، يومها قال في ذروة الملل بلا أوراق مكتوبة مسبقًا: أدعوكم لنقيم الإتحاد العربي، تمامًا كالإتحاد الأوروبي، كالإئتلاف الأفريقي، كبقية العالم، دعونا نقيم جيشًا رادعًا لإسرائيل، جيشًا عربيًا للجميع، قوة سياسية وإقتصادية تكافئ العالم، دعونا نصنع أي شيء لأمتنا العربية، ولنشترك فيها جميعًا بنفس التكلفة، لسنا طامعين بثروات الأغنياء هنا، نحن نطمع فقط بوحدة العرب الواحدة..

كان صالح يتحدث في قمة الرؤوساء بلغته العامية، كان يشرح التفاصيل الكبيرة بلهجة عادية، لهجة الواثق من نفسه أمام الملوك الأثرياء، في ثنايا خطابه هناك وقف الجميع يصفقون له، كانوا يرددون في القاعة بصوت واحد: شعب عربي واحد، شعب عربي واحد، عندها قال عنه القذافي أنت صامد وشجاع يا علي صالح، لم يتوقع أحد هذا منك، خذ شعار الشجاعة والصمود، خذه بجدارة أيها القائد، وقف الجمهور حينها عن بكرة أبيهم أجمعين يرددون بوحدانية العروبة قائلين: شعب عربي واحد، شعب عربي واحد، إبتسم صالح ووقف معهم رافعًا يده اليمنى وفي داخله يعلم جيدًا واقع العرب ومكر المخادعين، لكنه قد قال حلم الشعوب في شبه الجزيرة العربية وهذا بمفرده يكفيه..

هذا صالح وتلك خطاباته مازالت في كل مكان لم تمحى أو تنسى، كان دائمًا يتحدا إسرائيل كعدوها اللدود، ويصفها بالصلف الصهيوني المعادي، العدو المجرم للعرب..
لا أحد يستطيع محو الذاكرة، ذاكرة الشعب المتتبع لكل مآثر الرجل، إرثه القديم ولحظاته تلك تتدفق بشراهة وتناسخ كبير الى المواطنين ومن تلقاء أنفسهم، هكذا يبدو في كل ما يحدث، عاد الجميع في ذروة بؤسهم يبحوث عن حكايات الخرافة، عن صالح الذي تركوه يواجه مصيره بمفرده، وبعد الالف السنين من الشقاء تذكروا الرجل وعادوا يجلدون ضمائرهم من بؤس ما صنعوه.

علي عبدالله صالح وبعد أعوام من مقتله، مازال ذكرى باقية في رؤوس من أحبوه، هذا بلا شك، ماض جميل ودولة موجودة ولو بمستوياتها الدنيا، روحه وماضيه، طريقته وخطاباته، عباراته وإفتخاره بيمنيته وإنتماءه لسيف بن ذي يزن، ذكاءه ومكره ودهائه،و كل شيء عنه، باقٍ في معرفة اليمنيين وذاكرتهم الجريئة، وهذا ما يخيف اللاحقين من بعدهم والحاكمين للشعب، يخافون صالح "الفكرة والقناعة" المتجدرة في ذاكرة الناس، صالح الجماهير والمناسبات والأعلام والأغاني الوطنية، صالح الجيش والعروضات العسكرية، صالح الأوبريتات والرقصات الشعبية، صالح المصحف المرفوع والمساجد العالية، صالح الفقراء والعشاق الكبار في السن، صالح الدور الرئاسية والميادين الواسعة، صالح وصالح وصالح، لم يعد صالح موجودًا بالفعل، لكنه صار كابوسًا يؤرق كل اللاحقين، لم يستطيعوا حتى اليوم لملمة الفتك به وتحويله الى مجرم، لم يستطيعوا ذلك، وفي كل مرة يتجدد الماضي وتعود الفكرة وتتكاثر القناعة، وهذا هو الخوف والهاجس الثقيل.

يدرك اليمنيون هذا بالفعل، يدركون جميعًا بأن الأطراف السياسية والمذهبية الذين إستفادوا من الحرب على وجه التحديد، بصورة أو بأخرى يخافون من مجرد ذكر علي عبدالله صالح، يشتمونه في كل ذكرى  بأسوأ العبارات والإتهامات، هذا الأمر أصبح عاملًا مشتركًا بين من تقاسموا الدولة كجغرافيا وثروة أو إستفادوا منها كـثورة ومناصب ووظائف وظهور وسفريات وقنوات فضائية.

لا أحد يشتم الرجل سواهم، ولا أحد منهم يعترف له بفضيلة واحدة، ربما لأنه حال دون إستحواذهم على الكعكة الكبيرة في زمانه، ومع هذا يستمرون في الحرب على بعضهم ويقتلون بعضهم ويستفيدون مما بقي أو صار. 

سأقولها بشجاعة، الإصلاحيون والحوثيون والإنفصاليون والداعشيون والمناطقيون والمثقفون المتأتركون والشباب التوكليون والكثير من قطعان الأخرين، جميع هؤلاء لم يستطعوا تجاوز صفحة الرجل لأنهم وببساطة يتخذونه حجةً مقنعة وشماعةً مطلقة لإستمرار حربهم وتقاسمهم وسلطتهم ورواجهم وظهورهم، وكأنه وحده من كان يستطيع منع إمتيازاتهم هذه كلها.. ظلوا يتظاهرون بجوار منزله وقد أعطاهم السلطة، كانوا يرددون في كل يوم بجواره' المحاكمة المحاكمة المحاكمة، بعدها حاكمهم الأخرين، ليأتي اللاحقون بعدهم، وهاهم اليوم يسيرون خلف النيل منهم، ربما هو من سيقضي عليهم بروحه وصدى ذكراه في قلوب الناس، هذه الفكرة تقضي على من يكفر بعدائها صدقوني.

ذات يوم تحدث عبدالله صعتر، القيادي الإصلاحي بعد توقيع المبادرة الخليجية قائلًا:
إنصدم الاصلاح بالفعل وتفاجأ من تسليم صالح للسلطة بشكل سلمي وسلس وبلا حرب، أضاف يومها قائلًا: لو كان الاصلاح هو من يمتلك المعسكرات والقوه العسكريه التي يمتلكها صالح وثار الشعب عليه لن يتنازل ولن يسلم لأنها سلطه، وملك عظيم مش لعب جهال..! بهذا اللفظ تمامًا..

أخيرًا..
صدقوني، وحدهم الناس الذين لم يستفيدوا من الحرب ولا من إمتيازات الثورة ومكاسبها يتذكرون علي عبدالله صالح كدولة ورواتب وكهرباء وماء وتعليم ومستشفيات، يتذكرونه دائمًا كمؤسسات ولو في مستوياتها الأقل..

علي عبدالله صالح كان يرفض مجرد الحديث عن إسقاط الدولة، لكنهم أسقطوه وقتلوه وذهبوا ينتجون لنا بعده حالة من الغريزة الإنتقامية والإستقطابية بين أتباعه ومحبيه وبقاياه العسكرية.. 

قُتل صالح بالفعل وذهبت قواته وبقاياه العسكريه والسياسية والإعلامية تعيش بلا مشروع أو رؤية أو هدف سياسي واضح، كان الرجل مشروعهم الوحيد، لكنه مازال فكرة وقناعة لدى الناس، مازال ذكرى وإحترام وحب له صداه من زمن الخرافات القديمة.

ماجد زايد

https://www.facebook.com/100003161868147/posts/3345200178928678/

تعليقات