في إحدى ضواحي مدينة ميلانو الإيطالية، وتحديدًا بـمنطفة "تريفليو" المزدحمة والعملية والأكثر ضجيجًا وإنتاجا، كان الطالب اليمني محمد الكبسي يُحضر ويعمل ويجتهد لنيل درجة الدكتوراة في أمراض القلب والأوعية الدموية، لدى أعظم الأطباء والاستشاريين الإيطاليين والأوروبيين، كان هذا في العام 2004، وبالفعل حصل عليها بتفوق وإجادةٍ تُنافس في كفاءتها من أخذها عبرهم، خلال فترة زمنية شحيحة المتخصصين في الشرق الأوسط، ليصبح الطالب الكبسي لاحقًا من أوائل نوابغ العالم الجديد، كان يتنقل بين مدن عدة، ليتدرب ويطبق ويتعلم ويصقل الخبرات، مدن عديدة ومهمة جدًا في مجال القلب والقسطرة القلبية، تنقّل كثيرًا بين مدن ساندوناتو، وبولونيا، وسانرافائللي، ليجد نفسه في النهاية من أهم وأكفأ المتخصصين في القسطرة القلبية، بشهادة الأطباء الكبار والمؤسسين، لهذا بعثوه إلى فرنسا، ليكمل خبرته وشغفه في التمكن الفعلي من القسطرة القلبية بطريقة اليد العامَ 2008، ليكون بذلك حاضرًا للتدريب في أهم مدينة عالمية تجيد القسطرة القلبية، مدينة "فرساي" الرائدة في قساطر القلب بطريقة اليد، سافر إليها وأخذ من كبار أطبائها كفاءة اليد، وتفنُّن العقل، وشغف القلب لمداواة القلوب، ليكون من أوائل الطلاب العرب الملتحقين بمركز القسطرة القلبية في فرنسا، وليحصل منها على إجازة وشهادة القسطرة القلبية "شهادة ريديل العالمية".
بعدها عاد إلى الوطن، عام 2009، ليكون أحد البارزين المتخصصين في مداواة الشعب القدير، كان كالمنقذين بيديه وخبرته وكفاءته، وبإجادة القلب العزيز، بينما يداوي قلوب المواطنين، عاد إلى الوطن برفقة أسرته، وأبنائه الذين لم يتركهم خلفه في زمن اغترابه الطويل، كانوا سنده وروحه ودافعه الكبير، وكان والده العزيز متكفلًا بمصاريفه الدراسية، كان يساعده ويرسل إليه المبالغ المتتالية، يرسلها مع أمنياته الصادقة، إلى نجله وابن اليمن المجتهد البعيد، كان يدرس ويتخصص ويناقش الكبار في هذا العالم، وحين يعود إلى أسرته، يجدهم ينتظرونه ليسمعوا منه جديد الخبرة والدراسة والتخصص، لم يكونوا قط يتذمرون من صروف الدهر، وغربة الدار، وشحة الموارد والإمكانات، كانوا يكتفون بالقليل، لينال والدهم حلمه الوحيد، وفي كل مرة يشعرون فيها بالعجز، يتفاجأون بجدهم البعيد، يساعدهم من اليمن بمبالغ إضافية، تعينهم على البقاء والمضي قدمًا.
عاد الدكتور محمد الكبسي إلى اليمن، قادمًا من فرنسا وإيطاليا، واحتضنته الدولة بين ذراعيها، واحدا من الطامحين المتعلمين، ليصبح مباشرةً رئيسًا لقسم القسطرة القلبية في مركز القلب والأوعية الدموية بمستشفى الثورة العام، ومسؤولًا علميًا لجمعية القلب اليمنية، ثم مديرًا عامًا لمركز القلب والأوعية الدموية بهيئة مستشفى الثورة العام، وأستاذًا مشاركًا بكلية الطب في جامعة صنعاء، وليصبح أيضًا منسقًا خاصًا لأمراض روماتيزم القلب لدى منظمة الصحة العالمية ومكتبها باليمن، وعضوًا دائمًا في لجنة خبراء مكافحة روماتيزم القلب لدى منظمة الصحة العالمية WHO... وفي عيادته الخاصة والمتخصصة بعلاج مرضى القلب يستقبل مرضاه ومواطنيه، بنوع من الانفتاح والتعاون والقلب الطيب، فاتحًا أبوابها لطلابه من جامعة صنعاء، الطلاب الدارسون لتخصص القسطرة القلبية، ليكون بذلك ملهم الأطباء الجديد، ومعلم الأخصائيين القادمين بنوع من الحب والشغف والاجتهاد، ليتحقق الحلم الوطني الذاتي، بالاكتفاء والاستمرار، والأطباء المتخصصين في قلوب أبناء المواطنين… الدكتور محمد الكبسي حكاية استثنائية، وتجربة كبيرة، عن أنموذج يمني في العلو والمثابرة والإنجاز، سيرته تفوح بالكثير من الانبهار والدهشة، عن تفاصيل ملهمة، وجوانب ناجحة، وبروز نادر، لطالب بدأ مسيرته الأولى من فصول مدرسة جمال عبدالناصر، المدرسة التي ما تزال عامرة بالنجاح والمتفوقين.
الدكتور محمد أحمد إسماعيل الكبسي، ابن مدينة صنعاء، ولد في تاريخ استثنائي ونادر، ففي مساء ربيع الثاني، ذلك الموعد الذي ولد فيه الرسول الكريم، الموعد ذاته والزمان، بتاريخ 1964.11.10ميلادية، ولد طبيب يمني تم تسميته تيمنًا بمن ولد في تاريخه الهجري، بالرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، يومها انصدم الجميع بتاريخ عزيز، وموعد لا يحدث كثيرًا، أخذه والده وكبر بين أذنيه، وسعادة العمر تغشى فواده ومقلتيه، ليسميه باسم الحبيب، ويتمنى له سيرة الخالدين، وذكرى الطيبين، ولتمر السنوات عليه، وتتوالى الأعوام المتلاحقة، ويصبح محمد الكبسي أحد المتفوقين الأوائل في فصول المدارس المتتابعة، فأدرك الجميع عنه حقيقة التفوق والاجتهاد، بينما يقودانه للمستقبل المشرق الكبير، لينهي الثانوية العامة، ويحصل على منحة لدراسة الطب في مدينة حلب بسورية، ليصل إليها في العام 1984 شابًا مقطوعًا من كل شيء عدى الأمل والإرادة، وفي سورية كان شقيقه الأكبر المهندس يحيى الكبسي يدرس في المدينة ذاتها برفقة أسرته وعائلته، استقبلوه معهم، واحتضنته قلوبهم، فبدأ رحلته الطويلة، من غرفته الصغيرة بمدينة حلب، كان الجميع آنذاك، يقولون: "إن كل القادمين لدراسة الطب في حلب، يسقطون في أول سنواتهم، نتيجة صعوبة دراسة الطب فيها"، ولكن الشاب الجديد مختلف جدًا، أخذ التحدي بعين الاعتبار، ودرس لمدة ستة أشهر في غرفته وقاعات الجامعة لم يغادرهما قط، ليحقق بذلك إرادة النجاح بتفوق، وصدمة المحيطين به شاهدة أيضًا، لم يكن أحد في الجامعة يتوقع أن يستطيع طالب جديد التغلب على صعوبة الدراسة الطبية في مدينة حلب السورية.
وهكذا مرت عليه ثلاث سنوات دراسية، سنة بعد أخرى، ويوم إثر يوم، بين جامعته وبيت شقيقه الكبير، ليتفاجئ في سنته الرابعة، بقرار أخيه المهندس يحيى، عندما أخبره بأنه سيعود مع أسرته الى الوطن، وبأن محمد سيكمل مسيرته بمفرده، يومها قرروا معًا، بعد استشارة والدهم المقيم في اليمن، على زواج محمد من إبنة خاله، ليتزوج بالفعل عام 1988، وبذلك أقام بيته وأسرته الجديدة، لتدخل في حياته إمرأة وقفت معه بكل مراحله وتنقلاته وفتراته، هذا الكلام ستقرأونه من ملامح الدكتور محمد الكبسي، بينما يسرد مشاعره وامتنانه وحبه العظيم، بكلام عن القلب بينما ينبض بالحياة، عن إمرأة كانت بمثابة الظهر المتين، في سنوات الغربة والتعب والإعتناء بالبيت والأبناء، المرأة التي صنعت عظيمًا، وأقامت عروش بيت أنجب أعظم الأبناء، المرأة الوحيدة في حياة رجل شديد الهمة، وقوي العزيمة، وكثير الأحلام، رجلًا يدين بكل شيء في نجاحاته لزوجته التي عانت معه كثيرًا في رحلاته وتنقلاته ولياليه المرهقة، لسيدة يمنية يكفيها شرف الأحلام المحققة، وصياغة المشاعر الدافئة، من زوجها وأبناءها، بعد سنوات طويلة من المثابرة والإجتهاد، ملامح الدكتور محمد الكبسي، تتحدث عن هذا البهاء في سيرة زوجته وأم أبناءه، مع الكثير من الإعتراف لها ولسنواتها الطويلة بينما تشجع زوجها وتساعده وتعينه وتسنده بعمرها وحياتها، هذه الملامح كلمات عن القلب ومن القلب، مع دموع السعادة والإمتنان، إليها وإلى قلبها العظيم. لتتوالى الأيام والأسابيع والأشهر عليهما، وبعد عام ونصف من حياته الزوجية، رزق الكبسي بإبنه البكر، وأسماه "نضال"، تيمنًا برفيقه السوري، وزميله الدراسي، ليكون بذلك أحد المخلصين الأوفياء، لأصدقاءهم وزملاء حياتهم..
بعدها تخرج من حلب، وحصل على شهادة البكالوريا في الطب، وعاد الى الوطن، حاملًا شهادته ومرتبته المشرفه، مع إبنه البكر نضال، ليعمل مباشرة في مستشفى "متنه" إحدى مديريات محافظة صنعاء، ثم انتقل الى قسم الباطنية بمستشفى الثورة العام، ثم رئيسًا لقسم العناية المركزة بذات المستشفى، وخلالهما كان يعمل صباحًا في مستشفى الثورة الحكومي، ومساءًا في عيادة الدكتور محمد النعمي، كان مساعدًا له في عيادته المزدحمة بالمرضى القادمين والمغادرين، ومع توالي الأسابيع والشهور رزقه الله بإبنته الثانية، لتكتمل في حياته زوايا الأسرة، بإبنه وإبنته، بعدها وجد نفسه متطلعًا للمزيد، ليحصل على منحة خاصة لدراسة الماجستير في مصر، فأخذ أسرته وأرتحل إليها، مع شغف كبير وإصرار عظيم، وصل مصر ودرس في جامعة القاهرة وعمل في قصرها العيني، وسكن بجوار النيل، وارتشف منها كرامة الأرض وعذوبة القلب وإرادة المصريين، وادخل أبناءه في مدارس القاهرة، حتى انهى الدراسة وناقش الرسالة وعاد الى الوطن بشهادته الجديدة.
بعد عودته التحق مجددًا بهيئة مستشفى الثورة وعمل فيها صباحًا، إلى جانب عمله في عيادة استاذه الدكتور محمد النعمي، ثم قدم أوراقه لجامعة صنعاء وخاض امتحانات المفاضلة وأصبح معيدًا فيها، ثم عُين نائبًا لمدير هيئة مستشفى الثورة للشئون الفنية، بعدها تم تعيين الدكتور محمد النعمي وزيرًا للصحة، فأخذ الدكتور محمد الكبسي معه، وعينه مديرًا لمكتبه، ليتحقق بهذا الإرتباط المتين بين الدكتور النعمي والكبسي صداقة من نوع أخر، صداقة الثقة والعمل والإحترام المتبادل، كنموذج من الكفاءات بينما تعترف ببعضها في ثنايا الصداقة والإمتنان، وخلال سنواته المزدحمة بالعمل والصحة ومستشفى الثورة وتدريس الجامعة رزق بٱبنته الثالثة، لتزداد في حياته السعادة والجمال، هكذا لسنوات رحل بعدها برفقة أسرته لدراسة الدكتوراه في إيطاليا، ورزق هناك بإبنته الرابعة، ليكتمل الزمان والسلام في ربوع مراحله وتنقلاته.
هذه الخلاصة، ليست حكاية عابرة، إنها نموذج يمني مشرف، عن استشاري يمني جاء من ثنايا اليمنيين، ليصير أحد الرموز المضيئة والأيادي البديعة، والقلوب الأمينة، عن طبيب كافح واغترب، وسافر وعاد، وعانى الكثير من الصعوبات، وتبوء الكثير من التجارب والرحلات، ليصبح يمنيًا يسحق الإعتراف له ولسيرته الفواحه بالإلهام الخالد، والثناء العظيم، طبيب يمني عُرض عليه الكثير من المغريات ليغادر الوطن بعد سنوات الحرب والإقتتال، عروض الخارج المغرية والمجزية، مع الحياة الرغيدة والوظيفة المستقرة، رفض كل شيء وبقي مع الناس في الوطن، يداوي الجروح وينقذ القلوب، ويعلم الطلاب الدارسين، كضوء في الوطن، كرمز من الرجال الأوفياء، فسلام عليه، وعلى سيرته العطرة، من كل القلوب الممتنة، لطبيب اليمنيين الأكفئ والأمهر والأكثر طيبة واخلاصًا، سلام عليه ورحمة الله وبركاته، وعلى تاريخه وحياته المدهشة والمعبرة والملهمة لجيل القادمين من صفوف الشباب المتحمس للمستقبل العظيم.
ضمن سلسلة: #أطباء_يمنيون_خالدون
برعاية #مختبرات_اليوسفي_التخصصية
ماجد زايد
تعليقات
إرسال تعليق