طفل صغير في بداياته، بقرية بعيدة جدًا عن المدرسة، كان يصحو كل يوم مع الفجر، حاملًا طعامه القليل مع توديع والده ودعوات والدته، ليسير صوب المدرسة، ثلاثة كيلو متر مربع في أقاصي الجبال الوعرة، صعودًا ونزولًا حتى يصل، يجلس على الأرض بجوار زملاءه الصغار، يتعلم ويدرس، حتى ينتهي الدوام، ليأخذ نفسه عائدًا صوب بيته الريفي البعيد، يعود أدراجه قاطعًا المسافات، نزولًا فصعودًا حتى يصل في وقت متأخر، هكذا بدأت حكاية أعظم الأطباء اليمنيين، بداية السبعينيات، عن أصدق القلوب الإستثنائية، وأخلص النماذج اليمنية النادرة، وأبرز الحكايات السيرية المكافحة والمتماسكة والقديرة، عن الدكتور عبدالإله اليوسفي، أحد الأطباء اليمنيين في بداية الثمانينات، وأحد أنجح المدراء المنجزين، وأحد القيادات المؤسسة للواقع الصحي اليمني في المناطق النائية منذ البدايات.
أبن قرية عميد بمديرية السياني محافظة إب، جاء من قرية نائية، لوالدين فقيرين، وأصبح أحد أوائل الجمهورية اليمنية في زمنه، ليحصل على خيارات عدة ومنح متنوعة، الى أوروبا وأمريكا، والى أكثر البلدان تقدمًا، لكنه إختار منحة الطب ودراسة الطب، وهو ما وجده في جامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية، لم يكن أحد يتخيل أن ينتهي المطاف بطالب من أقاصي القرى النائية في جامعة مفتوحة ومدينة مزدهرة وزملاء دراسة من أبناء الذوات والمتفوقين، لكنه اليمني حينما يتقدم الصفوف وينافس ويتحدي ويثابر، ويتصدر الواجهة بإرادة لا يمكن ردعها، وقلب لا يستهان به، كان يدرس ويجتهد، ويثابر، ويحصل على اعتماده المالي من الجامعة، يصرف منه على حياته ودراسته، ويرسل نصفه الباقي الى والده ووالدته في القرية، بواحده من آندر الحكايات الملمهمة لملايين الشباب، خصوصًا الدارسين منهم في الخارج، عن طالب ممسك بزمام الإصرار من ناصيته، مقلبًا إياه كيفما شاء، ليرغم القدر على الإستجابة لنجاحاته وأحلامه.
وهكذا، مرت عليه سبع سنوات في غربته، طالبًا يمنيًا لا يعيش ولا يفكر إلاّ بالدراسة، لينهي دراسته وسنواته في الإمنياز، بتفوق كبير، وتقدير مشرف، ثم عاد الى وطنه بتخصصه وعبارات الشرف في شهاداته، لتحتضنه الدولة، كالأم بينما تستقبل أبناءها، ليصبح على الفور طبيبًا عامًا في مدينة القاعدة، المدينة النائية والبدائية والفارغة من الأطباء، إلاّ من أحد أبناءها الواصلين، طبيبًا متفوقًا، بهمة عظيمة كالنار بينما تنتشر في الهشيم، الدكتور عبدالإله اليوسفي، من أوائل الأطباء العاملين في مدينة القاعدة، اختار خدمة أهله المقربين في المدينة المحتويه لأبناء قرى السياني وذي السفال، وفي المقابل تجاهل خيارات المدن الأخرى، هذه الأولوية ليست رائجة في حياة الكثيرين، بينما يفضلون المناطق الأرقى والأكثر تقدمًا وانفتاحا، على المدن البادئة والمتأخرة، لكنه طبيب يعرف أولوياته جيدًا، ويعرف الناس الأجدر بخدماته، لهذا اختار البداية العملية في مدينة القاعدة، بداية المسيرة والعطاء.
عمل في مستشفى القاعدة كطبيب عام لمدة سبعة أعوام، ثم أصبح مديرًا عامًا للمستشفى، لمدة سبعة عشر عامًا، ومديرًا عامًا لمكتب الصحة بمديرية ذي السفال لمدة ستة عشر عامًا، ومديرًا عامًا للرعاية الصحية في محافظة إب لمدة لاحقة.. تلك معالمه اليوم واضحة، ونجاحاته باقية، عن طبيب صنع في مدينة القاعدة الكثير من العلامات الفارقة، أروقة وعيادات ومباني المراكز والمستشفيات خالدة، وجدرانها تتذكر رجل رسم منها مباني عالية، وقدم بين جنباتها ملايين الخدمات الصحية للمواطنين، عن رجل كانت الدولة بائنة في تفاصيله القيادية، وخططه المبنية، وهيئته التفصيلية، رجل يشبه الدولة بانجازاتها ورجالها، وقلوبها الكبيرة، أعرف تفاصيله كلها، أعرفها ككاتب ومدون وصحفي صريح، ومعها أعرف أخلاقه ومعاملته وتفكيره وصفاته كلها.
الدكتور، والأب، والمربي، والملهم العظيم، عبدالإله اليوسفي، أحد المؤسسين، وأبرز الأباء الصالحين، له ستة أبناء، جميعهم أطباء واخصائيين، وحكايات نجاحهم تدوي في الأرجاء، إنهم أبناء اليوسفي، ذلك الطبيب اليمني القادم من أعماق الريف البعيد، ليصير مع التلاحق الزمني أسرة كبيرة من الأطباء والإستشاريين والأخصائيين والموظفين المرموقين، هذه الحكاية تحفر في قلبي الكثير من المشاعر والشجن، بتفاصيلها المختلفة، ونتائجها الباهية، كنموذج يمني يستحق الحديث عنه كعلم مرتفع، بينما يشير إليه السائرون، إشارة الإلهام والتقدير، إبناءه الأطباء، لم يكونوا سيجدون طريقهم، لو بقي والدهم في بيته الريفي بلا دراسة، لو فضل عدم السير الطويل نحو المدرسة، لو بقي في مزرعة والده الصغيرة، ليحرث ويجني ويزيل الحشائش الضارة، كانوا سيعيشون شكلًا أخرًا من الحياة، لو لم يواجه والدهم مصيره الشاق، وواقعه المرير، لم يكن أحد منهم سيجد الطريق والجامعة والسبيل المزدهر بالنجاح، هذه حقيقة عليهم معرفتها دائمًا.
الدكتور عبدالإله اليوسفي، بعد مسيرة الوظيفة الرسمية، والخدمات العامة المكللة بالكثير من النجاح، قام بتأسيس مشاريعه الخاصة، ليفتتح أول مستشفياته المسمى بالرازي، كواحد من أوائل وأنصع المستشفيات المعروفة في مدينة القاعدة، بعده أسس مستشفى دار العلوم، ليكون بجودة الطب أكثر المرافق الصحية المجهزة في المدينة، ليبقى دار العلوم مشروعه الأخير، وحكايته الباقية، وتفاصيل أيامه بينما يذهب ويعود، محاولًا استمرار خدماته الطبية لأبناء المدينة التي يعرفه فيها أبناءها، وفيها يجتمع حوله الكبير والصغير، كأحد الموسسين الملهمين، أنا واحد من هؤلاء، وأحد الضيوف النازلين في منزله المفتوح للجميع، المنزل الذي يعرفه الفقراء قبل الأغنياء، والأطباء قبل العمال البسطاء، ولو سألت أحد الفقراء العابرين، عن سفرت طعام الدكتور عبدالإله اليوسفي، سيجيبك بدون تردد، كأنه أكثر الخبراء المترددين عليها، عن شهر رمضان، بينما يفتح منزله وطعامه لكل المحتاجين، للرجال والعمال والعابرين، طيلة عقود، ولسنوات طويله، كانت سفرته الرمضانية عامرة لكل القادمين، من كل الفئات والطبقات، حتى الأجانب العاملين في مدينة القاعدة، الأجانب الذين يرفضون ضيافة المنازل والييوت، كانوا يدمنون على ضيافته، وطعامه وسفرته العامرة، أعرف العشرات منهم، وكيف كانوا يقبلون إليه بشوق اللاهثين، عن منزل الخير والمواطنين، منزل الرجل العظيم.
هذه السيرة الفواحة، ليست سردية عادية، إنها خلود وعرفان، وهيجان من العواطف والإمتنان، من نجله الدكتور مختار اليوسفي، أحد الأسماء الرنانة في عالم الطب والخدمات الصحية، عن النجل القادم من ذلك الكبير، من ذلك الأسم المرموق الذي صنع بكفاحه وصبره ونضاله مستقبلًا من التقدم والإزدهار، ومن الأبناء المتفوقين، كمعجزة من عالم السابقين، عن طفل صغير، ووالدين فقراء في قرية مقطوعة من الفراغ، وزمن بعيد من الأحلام والحياة، لكنه فعل، وصنع المعجزات، وصار نجمًا في ظلام الليل الحالك، ورجلًا يكن له المواطنين ثناء الخالدين، وسير المؤسسين، مع أخلص عبارات الحب والشكر والإمتنان، لسيرته وحياته، وبداياته، وانجازاته، ولأحقيته المطلقة بالإنصاف والشكر والتقدير، خالص المحبة والتعظيم، دكتورنا ووالدنا الكريم.
ضمن سلسلة "أطباء يمنيون خالدون"
ماجد زايد
تعليقات
إرسال تعليق