"الموقف الأبدي"
عن علي عبدالله صالح في ذكراه الخالدة..
الموقف الواحد والقضية الخالدة:
في ليلة من ليالي المصير الوطني، ليالي الدفاع عن الجمهورية اليمنية والدولة المتشكلة حديثًا، كانت صنعاء تعيش أصعب لحظاتها التاريخية، حصار مطبق من كل الإتجاهات، توقعات مطلقة بالهزيمة والإستسلام، معطيات غير متقاربة، فترة مفصلية قال عنها المؤرخون أشد لحظة يمنية خالدة ومؤثرة، كانت صنعاء آنذاك تدافع عن جمهوريتها المتحققة منذ خمسة أعوام، مقابل جيش إمامي يتجاوزها بالقوة والتوقعات، مدينة متروكة للزاحفين، وحصار قاتم أعدم الحياة البسيطة، ومستجدات الأحداث لا تتجاوز أحاديث الشعور اليمني بالتخلي والخذلان، جيش مصر غادر صنعاء، وترك جمهوريتها بدون حماية، الرئيس الجمهوري غادر اليمن، وترك العاصمة بلا ملامح واضحة، الرئيس الإرياني محاصر في الحديدة، وجيش الإماميين مطبق السيطرة على مشرق الشمس ومغربها، لم يكن أحد يعي فداحة الواقع كما عرفها مناضلوها، في ظل إمكانيات ضئيلة وأسلحة شحيحة، يومها استسلم القادة الكبار للهزيمة، وتوقف السياسيون عن اظهار أيّ حيلة، ليظهر من العدم مجموعة من الضباط الصغار، غيروا المعادلة وصنعوا المعجزات.
كان أحد هؤلاء ضابط صغير، كما أطلق على نفسه بعدها، قائد سرية دروع، ومتخصص بمهمات قيادية في مجال القتال بالدروع، كان يملك دبابة جمهورية، ويقود سرية مدرعات، كان يتباهى بمهماته ومدرعته، ويتقدم بواسطتها كل الجبهات، محدثًا الفرق في سير المعركة، كان واحدًا من رفاق السلاح المتحمسون للدفاع عن وطنهم وجمهوريتهم، ضباطًا وقفوا بشجاعتهم وامكانيتهم وواجهوا الهزيمة، يدافعون عن أرضهم ودولتهم، صانعين الضوء من مغرب العاصمة في أحلك الظلمات، علي عبدالله صالح، الرئيس اليمني الذي عايش الثورة والجمهورية وشارك بتأسيس الدولة، كان مغمورًا في معظم الأحداث والاعتبارات، لكنه من أبطالها، تمامًا كألاف الشباب والمقاتلين، شارك في معركة السبعين، وانتصر فيها، وصنع بدبابته المعجزات والملاحم البطولية، يقول عن أحلك لياليها: بتلك الفترة لم نكن كضباط نتوقع أن ننتصر، لقد كانت الظروف صادمة، لكننا قررنا الموت في سبيل قضيتنا، كنا صادقنين في مواجهتنا، متماسكين بقضيتنا، مدركين جيدًا فروق الهزيمة والإنتصار، كنا شبابًا من روح سبتمبر، وأكثر من يعي حياة ما قبلها، لم نكن مطلقًا على استعداد لترك ما صنعناه بأيدينا، كان خيارنا الوحيد، الموت على الرضوخ والإستسلام.
وهكذا، انتصرت الجمهورية وتأسست الدولة، وأصبح ضباط السبعين، قيادة الدولة، وصار علي عبدالله صالح الضابط المغمور رئيسًا للجمهورية، لتمضي بعدها السنوات والعقود والأحداث، حتى يأتي ليل مختلف، في زمن مختلف، مع أحلك الشتاءات اليمنية، كان علي عبدالله صالح محاصرًا في منزله بصنعاء، حصار مطبق وقوات متقدمة وحاسمة، مع فروق كبيرة بالعتاد والإمكانيات، لكنه لا يهتم بمعطيات القوة، حينما يتعلق الأمر بالقضية، لقد عاش هذه اللحظة منذ خمسين عامًا، كل التفاصيل تشبه بعضها، وكل الملامح تتكرر كأنها ذاتها، حصار، وقضية، وجمهورية، ومصير دولة، في ديسمبر من العام 2017، كرر النداء، لجماهير الشعب والمواطنين، تمامًا كما فعلوا في نداء الدفاع أثناء حصار السبعين يومًا، ولكن المعطيات قد تغيرت. وحماسة الشعب قد تبخرت، وقيادة الدولة قد سلمت واستسلمت، ومعجزة الضباط المغمورين لم تعد في خانة التوقعات، خظب صالح في ذلك اليوم لجمهوريته، متقدمًا قضيته، بدون يأس أو خوف أو استشلام، لم يكن يأبه للموت، ولا للهزيمة، ولا للتكهنات، لقد تقبلها كلها وعايشها جلها منذ زمن طويل، يكفي أنه بدأ بذات القضية ومات من أجلها.
كسيناريو إستثنائي، لبطولة يمنية، صنعت بدايتها، وختمت حكايتها في ذات اليوم، الرئيس اليمني الجمهوري الذي مات مدافعًا عن قضية خالدة، فضية لم يتوقف عن ذكرها طيلة حياته وسنواته ومراحله كلها، تاركًا خلفه حلمًا وطنيًا وطريقًا واضحًا وقضية يجب استعادتها، ففي الذكرى الأربعين لملحمة السابع من فبراير، ملحمة السبعين يومًا اجتمع صالح بقيادة الجيش والمؤسسين للدولة، وخطب فيهم، وأنصفهم وتجاوز ذاته في كل التفاصيل حتى قال: سنترك للتاريخ أن ينصفنا، المناضلون لا يبحثون عن كُتاب ومادحين، التاريخ مهما تغير سيعود كي ينصفهم، خصوصًا حينما يكون الحدث عظيم والغاية خالصة، أما نحن فقد خلقنا لأجل وطننا، وتنازلنا عن أرواحنا في ثنايا دفاعنا عنه، وبعد أن انتصرنا سخرنا حياتنا وأرواحنا له، ولن يأتي علينا يوم أخر نهتم فيه للموت أو الخوف أو المصالح الضيقة، هذه ملامحنا ظاهرة أمامكم، وحكايتنا معروفة للجميع، ذكروا بها أبنائكم وأحفادكم ولا تتنازلوا عن إيمانكم بجمهوريتكم ودولتكم وأحلامكم، هذه بالفعل خلاصة ما حدث بعدها.
تساؤل وأحداث:
في العام 2017 أصدر الدكتور فيصل جلول وهو باحث وكاتب وصحفي لبناني، كتابًا بعنوان: “حين خرج الماء من صخر الصوان” عن سيرة علي عبدالله صالح، معتمدًا فيه على تخصصة بالشأن اليمني ومعرفته بكافة التفاصيل والتعقيدات والصراعات الحاصلة، وساردًا عبره تجاربه المتراكمة ولقاءات القديمة مع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، وحكومته وقياداته ورجالاته السابقين، يقول فيصل جلول في كتابه المعروف: لقد طرحت في هذا الكتاب السؤال الذي رافقني لأكثر من ربع قرن. كيف صار هذا الرجل رئيسًا للجمهورية اليمنية، ومختلفًا عن الرؤساء الذين قابلتهم، رجال سياسة وقادة كبار التقيتهم وكنت أسخر من حرصهم الشديد على تعظيم البروتوكولات واتقزز من جملهم الخشبية وعباراتهم الفارغة، في المقابل لم يكن يطلب مني علي عبد الله صالح بمعظم لقاءاتنا أن أكتب عنه أو عن سيرته ونضالاته، ولطالما كان يحتقر المنافقين والمتزلفين: قال لي ذات يوم ممتعضًا من أحد رجالات السياسة: انظر الى ابتسامته الصفراء. لقد انقذته من الوحل في المرة الأولى والثانية والثالثة وفي كل مرة كان يعود للتآمر عليّ.. نعم لم يطلب مني علي عبد الله صالح أن أكتب شيئًا عنه، وهذا استثناء في مقابلاتي، كان يقول لي بلهجته اليمنية بما معناه: هذا البلد بلدك لك أن تفعل فيه ما تشاء كما في بلدك، لهذا، هانذا اليوم أقدم هذا الكتاب عنه، هو ما شِئْتُ وما أتمنى أن يعيد الى علي عبد الله صالح ما يستحقه في تاريخ بلده السياسي المعاصر.
سيرة علي عبدالله صالح المتاحة للجمهور، لا تتضمن الكثير من التناولات، هي مجرد إشارات وتواريخ مختصرة، وباردة في سردها، ولا تتيح الإحاطة بظروف انتقاله من قعر المجتمع إلى قمة الدولة، فيما المعاصرون له يفضلون الحديث عنه بشكل رسمي ومتحفظ، مع عبارات ملتوية لا تتجاوز المديح والتنميق الثقيل للظل، والبعض الأخر منهم لا يريد الإفصاح عن هويته كمرجع جدير بالثقة، ليكون اعتماده حجة في حكم أو مقاربة أو استنساخ، في المقابل لا يمكن الإستناد حصرًا إلى روايات الخصوم والمهاجمين والناقمين، لأنهم لا يتجاوزون شيطنته وإلقاء النتائج الكارثية على عاتقه ومسؤوليته، في زمن صالح السلطوي، زرت اليمن، والتقيت به، ثم حاولت معرفة تفاصيل أخرى عنه عبر مقربين منه، وحين تواصلت مع أحدهم وهو شخصية سياسية مقربة جدًا إليه، طيّب خاطري في البدء ثم قال لي بأن الرئيس علي عبدالله صالح لا يحب الكاذبين والكتاب المتملقين والمادحين، وأن الصحفي "فلان الفلاني" كتب سيرته بتملق ومنهجية تستحق أن يتم إلقاءها في سلة المهملات. ثم نصحني بالأسلوب العقلاني والمنهجية المنطقية المبنية على أحداث حقيقية، بدون مبالغة أو تضليل.
التقيتُ الرئيس الراحل علي عبد الله صالح للمرة الأولى في العام 1987، إتصل بي الدكتور عبد الكريم الارياني قبل ساعتين من اللقاء، قال لي: لا تتحرك من الفندق سأمرُّ عليك بعد قليل ونخرج معًا بسيارتي، وحين وصل، اتجهنا الى منزل الرئيس الشخصي، انتظرنا دقائق في صالون قوسي الشكل أو هكذا بدا لي، ثم جاء الرئيس علي عبدالله صالح، مرحبًا بي وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد، ثم قال لي: كيف حالك؟ كيف رأيت اليمن؟ يومها، اقتصر اللقاء بيننا على حضور الجنرال عبد الله البشيري وربما الجنرال القاسمي ما عدت أذكر جيدًا. كان صالح مهتمًا بمعرفة نتائج المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية في الجزائر التي شاركت بتغطيتها ونشرت تفاصيلها في مجلة “اليوم السابع”. في ذلك اليوم كان بعض أطفال الرئيس يلعبون بالقرب منا، يركضون في المكان ويضحكون عاليًا ويحدثون الكثير من الضجيج،. لم يعبأ بهم الرئيس. بدا الأمر طبيعيًا بالنسبة له وللحاضرين. من جهتي كنت أكتشف للمرة الأولى مسؤولًا سياسيًا لا يقيم وزنًا واعتبارًا للبروتوكول الذي يرسم هرمية وحواجز وحدود ونمط سلوك رجل السياسة. طلبت منه إجراء مقابلة خاصة للمجلة قبل سفري، وافق على الفور، ثم تحدثنا قليلًا، حتى بدا مستغربًا عندما إعتذر مني الأرياني بقوله: إن ما تبقى من اللقاء مخصص لبحث قضايا حكومية. فانصرفت على وقع عبارة الرئيس: لا عليك سنلتقي مجددًا..
لم يعبء بإسرائيل:
في كتابه الشهير، يروي فيصل جلول تفاصيل مهمة من حياة علي عبدالله صالح، يقول جلول: في شهر يناير من العام 1996، صادفت الرئيس علي عبدالله صالح، في باريس، إثر حضوره دعوة رسمية من فرنسا لحضور قداس أخير وتوديعي للرئيس الفرسني الراحل فرانشو ميتران، يومها تولدت في داخلي تساؤلات عديدة، كان أهمها، كيف استطاع علي عبدالله صالح، الرجل الذي بدء حياته راعيًا للأغنام، ومن ثم جنديًا عاديًا، أن يحتل مقعدًا في الصفوف الأمامية بين زعماء العالم الكبار؟ توقفت كاميرات المصورين عند الوجوه البارزة في الكنيسة، وسلّطت أضواءها مرارًا على المستشار الألماني السابق هلموت كول الذي كان يذرف دموعًا سخية على شريكه الأساسي في المشروع الأوروبي. وجالت على أفارقة وأسيويين ونقلت ملامح وانفعالات زعماء عرب حضروا المناسبة، كان من بينهم الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح الذي نقل بلاده من هامش الأمم المنسية إلى صدارة المسرح الدولي، بعد غياب طويل، جراء التقوقع على الذات في عهد الإمامة، والصراعات الأهلية المديدة والانقلابات العسكرية المتتالية في العهد الجمهوري. كادت المناسبة أن تمر بلا حدث مثير للجدل لولا انهماك وسائل الإعلام بنقل رواية من قصر الإليزيه، عن إجتماع مزعوم بين علي عبدالله صالح وشيمون بيريز الرئيس الاسرائيلي الراحل، وأن اللقاء تم خلال إحتفال أقامه مساء اليوم نفسه الرئيس جاك شيراك على شرف الضيوف الذين حضروا القداس الصباحي. تحدثت الرواية التي سرّبتها السفارة الإسرائيلية في باريس عن مصالحة يمنية ـ إسرائيلية وعن اشاعات عامة بتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية، وقيل إن اليمن هو البلد العربي الأبرز في شبه الجزيرة العربية الذي سيكسر حاجز العزلة حول إسرائيل. عاد الرئيس اليمني من كوكتيل الإليزيه إلى فندق الـ”ريتز” المطل على ساحة “فاندوم” التاريخية في العاصمة الفرنسية. كان بوسعه أن يُشاهد من جناحه الخاص تمثالاً لنابليون بونابرت يتوسط الساحة معتلياً رأس مسلة صنعت من نحاس 1200 مدفع غنمها الإمبراطور الفرنسي من معركة “أوستيرليتز” التي بسطت فرنسا من بعدها سيطرتها على أوروبا القارية لعقد من الزمن. ما أن اجتاز عتبة جناحه حتى نقل إليه أحد المرافقين خبر الإليزيه. بدا علي عبدالله صالح غير عابئ بما أذيع واكتفى بالإشارة إلى مساعده عبده بورجي لتوزيع نفي رسمي للرواية عبر وسائل الإعلام. وشرح لقلة من الحاضرين، بينهم الدكتور عبد الكريم الأرياني والدكتور محمد سعيد العطّار والأستاذ محمد اليدومي الوجه البارز لـ”الإخوان المسلمين” في اليمن وكاتب هذه السطور، أن الأمر اقتصر على مصادفة بروتوكولية باردة من دون شيٱ مما قيل، بعد ذلك، انتقل صالح للحديث عن مسلة “فاندوم” وعن كنيسة “نوتردام” وسألني عن تاريخ بنائها وعن السبب الذي حمل الفرنسيين على اعتماد أشعة الليزر في ترميم واجهاتها الحجرية وتماثيلها المذهلة.
فلسطين وفارس العرب:
مثلت القضية الفلسطينة بالنسبة للرئيس علي عبدالله صالح، أهم مؤشرات تعاطياته الدولية، منذ بداياته وحتى أخر شربة ماء في حياته، كان من أبرز الداعمين لفلسطين، والمساندين لقواها وتنظيماتها، ولطالما تحدث عنها في خطاباته ومناسباته ومؤتمراته الدولية، وهذا ما جعل الفلسطينيين يطلقون عليه لقب فارس العرب، بلسان مروان البرغوثي، القيادي الفلسطيني والمعتقل السياسي في سجون إسرائيل.. في أحد لقاءات الشيخ أحمد ياسين، مؤسس وقائد حركة حماس، تحدث قائلًا: الرئيس علي عبدالله صالح، يدعم القضية الفلسطينية، ويفهم القضية الفلسطينية، ويعي جيدًا ضرورة القوة في مواجهة العدو الإسرائيلي، ولقد سخر للمقاومة إمكانيات كبيرة في اليمن، واستوعب قياداتها ومقاومتها وفي كل خطاباته يتصدر خطابنا وقدسية مقاومتنا للمحتل، وهنا يقول الكاتب اليمني هشام المشرمة في بعض إضافاته المهمة: قبل أن يشرب صالح شربة الماء الأخيرة في حياته، قال بخطابة الأخير: لقد وقفت مع القضية الفلسطينية، وكنت سندًا لها، جنبًا إلى جنب مع الشعب اليمني، تحية لك أيها الشعب الفلسطيني والسلام.
علي عبدالله صالح الذي استضاف أكثر من 5 الف مقاتل وقيادي فلسطيني، مع عوائلهم، وأسس لهم معسكرين، أحدهما صبرا بالشمال في بلاد الروس مسقط رأسه وبلاده، ومعسكر أخر شاتيلا بالجنوب اليمني، استضافهم عقب حرب لبنان عام 1982، في الوقت الذي رفض فيه جميع العرب استيعابهم، ثم منحهم معسكر وأسلحة وقدرات صناعية وتدريبية، وهذا بحد ذاته إستثاء لا يحدث كثيرًا، لكنه القومي العربي، والعربي الصادق بعروبته وانتماءه وقوميته، وبعد عدة سنوات تحدث عن الأمر عضو اللجنة المركزية لحركة فتح القيادي الفلسطيني عباس زكي، حين قال: اليمن بمواقفها معنا عام 82 جسدت الكرامة والشهامة والصدق والوفاء، ولقد تمنيت أن تكون اليمن جارة لفلسطين، فهي الوحيدة التي قدمت لنا ما لم نكن نتخيله، ووقوقفها إلى جانبنا كان أكثر بكثير مما يقال، الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، والرئيس علي ناصر محمد، مثلا أعظم المواقف العربية بعد إخراجنا من دول الطوق، ذات مرة أجاب الرئيس علي ناصر محمد على السوفيت الذين طالبوه بعدم منح الفلسطينيين السلاح الاستراتيجي قائًلًا: أذا لم أعطي السلاح الإستراتيجي لفلسطين، فلست بحاجة إليه، فلسطين هي الشطر الثالث من اليمن.. ومن ناحية متصلة، كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ينادي الرئيس صالح في كل خطاباته وكلماته ولقاءاته: بأخي ورفيق دربي، ولطالما كررها وأعادها، في واحده من أقرب العلاقات الأخوية بين زعيمين، علاقة متجاوزة للتكلف والرسميات والبروتوكلات، وطريقة واضحة عن صدق النوايا وصدق الأفعال.
الرئيس علي عبدالله صالح، كان يمارس شكلين من التعاطيات مع القضية الفلسطينية، من ناحية يصر على دعم المقاومة السياسية، وتوحيد صفوفهم، ومن ناحية موازية يؤكد ويدعم المقاومة المسلحة بالتدريب والعتاد. في العام 2007 شاركت اليمن بحوار أجرته السعودية لإبرام إتفاقية تصالحية في مكة المكرمة بين فتح وحماس، بهدف تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتوحيد المقاومة على الأرض، بعدها بعام، وبعد فشل إتفاق مكة، وقعت حماس وفتح في صنعاء إعلان المصالحة الفلسطينينة بالـ 23 من مارس 2008، وبعد عام من الإعلان، وفشل المصالحة، أعلنت اليمن عن مبادرة جديدة لإستئناف الحوار. بين السلطة الفلسطينية وقيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس، من منطلق حرص اليمن على رأب الصدع في الصف الوطني الفلسطيني وتعزيز وحدته الوطنية وبما يكفل مواجهة العدوان الإسرائيلي وإنهاء الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، وقدمت اليمن مبادرتها في الكويت إلى قادة فتح وحماس وأيضاً إلى قادة كل من مصر وسوريا وتركيا باعتبارها الدول المقترحة لرعاية الحوار.
كل هذا العمل اليمني الدؤوب، متزامنًا مع خطاب رسمي واضح ومتكرر، خطاب لم يتوقف الرئيس صالح عن إعادته في معرض كلامه بالقمم العربية والمحافل الدولية، خطاب تجريم إسرائيل، ووصفها بالصلف الصهيوني الغاشم، وبأنها لن ترحل إلاّ بالقوة، فما أخذ بالقوة لا يعود إلّا بالقوة، داعيًا إلى تأسيس جيش عربي واحد، لمواجهة إسرائيل،. هذا ما لا يمكن لأحد المزايدة عليه، أو حرفه أو تزييفه للرأي العام اليمني والعربي والدولي.
تسامح ورؤية مستقبلية:
في عام 1995 دعى الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، في باريس، خصومه السياسيين من جنوب اليمن وقادة الإنفصال، إلى اللقاء في مكان إقامته بباريس، يومها إلتقته صحيفة الشرق الأوسط وسألته عبر صحفيّها قائلة: سيادة الرئيس، كيف تتواصلون بقيادة الإنفصال، وتدعونهم للقاء بعد حرب طاحنة بينكم، خصوصًا والحكومة اليمنية تطالب بمثولهم أمام القضاء في الوقت الذي تجرون معهم اتصالات بين الوقت والآخر؟ يومها أجابه الرئيس صالح وقال: الإتصالات بيني وبينهم تتم على أساس أنني رئيس دولة ورئيس للمواطنين جميعاً. ولكن سياسة الحكومة كحكومة قائمة، والحكومة اليمنية تدعوا لمحاكمتهم.. بعد هذه المقابلة خرجت الشرق الأوسط بمقال مطول عن الرئيس اليمني والشأن السياسي، مقال قالت في بعض أجزاءه:
بلد كاليمن، بكل ما يملكه من تعددية، وظروف صعبة، ومواجهات حاسمة مستمرة مع الماضي، وانشداد ضروري في اتجاه المستقبل، ناجح في أن يكون لديه رئيس بمواصفات علي عبدالله صالح، وأهم هذه المواصفات هو فهم اليمن وتعقيدات اليمن، ولعل هذا أبسط الف باءات الحكم وهي أن تفهم الشـعب الذي تحكمه، طبيعة وظروفاً وتعددية، هذا القلب الكبير الذي يحمله اليمن كله لسياسييه الذين تعاركوا، وتخاشوا وتقاتلوا، يوماً ما وعندما عادت الأوضاع إلى طبيعتها أعادهم الرئيس واصبحوا مواطنين، يخدمون يمنهم دون أن يحملوا عقد الماضي وبقاياها، وهذا لعمري منتهى التسامح والعقل من أي شعب. هذا هو اليمن.. يتغير كما يشاء ويعيش كما يحلو له مع التحولات الخطيرة لكنه باق ويجب أن يبقى يمن الجميع.. اليمن الرؤوم.. الذي وجدته في ثنايا وعبارات الرئيس رغم آلام التجربة، وقسوة الصراع، ومرارة المأساة،
وختم الكاتب في صحيفة الشرق مقاله قائلً: لم اطمئن على وضع اليمن كما اطمأنت عليه حين بدأ الرئيس اليمني يتحدث عن الاقتصاد إذ وجدت انه من الزعماء الذين التقيتهم وقد أدركوا ادراكاً عميقاً أهمية الاقتصاد وإحلاله محل البلاغة السياسية والحل الأمني معاً. وما مروره بفرنسا إلا انعكاس للهم الاقتصادي الذي يعيشه اليمن ويتفاعل معه فهو يقول أن زيارته لفرنسا خاصة وهي جاءت في طريق عودته إلى الوطن بعد أن قمت بإجراء بعض الفحوصات الطبية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي كانت نتائجها جيدة ومطمئنة بحمد الله وقد التقيت بالرئيس جاك شيراك الذي تربطني به صداقة قديمة وأجرينا مباحثات إيجابية تناولت العلاقات الثنائية وسبل تطوير مجالات التعاون المشترك على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية وتربطنا بفرنسا علاقات صداقة وتعاون متطورة وهناك العديد من الاستثمارات والشركات الفرنسية العاملة في اليمن وعلى وجه خاص في مجال النفط والغاز والاتصالات وقريباً سيوقع في صنعاء اتفاق للغاز مع شركة (توتال الفرنسية، كما تناولت مباحثاتنا المستجدات والتطورات اقليمياً ودولياً وعلى وجه خاص تطورات مسيرة السلام في المنطقة والأوضاع في البوسنة والأوضاع في العراق في ظل ما يعانيه الشعب العراقي الشقيق من حصار اقتصادي..
مواقف باقية:
الروائي الألماني غونتر غراس الحائز على نوبل للأداب حينما جاء الى اليمن في العام 2000 بغرض المشاركة في مؤتمر أدبي وثقافي برفقة أدباء أخرين من ألمانيا والنمسا وسويسرا، بدعوة رئاسية من علي عبدالله صالح، غراس الذي قال بروايته النوبلية "طبل الصفيح": الكتابة مهنة خطرة، تكسر المحرمات، ومن لا يملك الشجاعة بعبور الحدود جميعًا، عليه أن يختار مهنة أخرى: "أن يكون حلاقًا أو قصَّابًا مثلاً!" غونتر غراس في زيارته لليمن إلتقى برئيس الدولة وإنتزع منه عفوًا رئاسيًا وحماية أمنية للروائي اليمني وجدي الأهدل المتهم بإهانة الجيش اليمني، تلاه ملاحقة دولية ومطالبات رسمية بتسليمه، يومها أعُلن عن أسم الروائي الألماني في قصر الرئاسة اليمني للقيام بإستلام درعه التكريمي الإستثنائي، لكنه وبشكل صادم كسر بروتوكولات السياسة والثقافة والأدب، ورفع يده معترضًا ومتحاملًا وقال بإنه يعتذر عن قبول الوسام حتى يتم تلبية مطالبه! قال إنه يُطالب بعودة الكاتب اليمني المنفي، وجدي الأهدل إلى وطنه، وأن يصدر الرئيس قراراً بالكفّ عن ملاحقته قضائيًا مع توفير الحماية له.. يقول وجدي الأهدل عن الحادثة: حدث اضطراب كبير بين رجال السلطة، بعضهم ينفي أن هناك قضية مرفوعة من الدولة ضدّ الكاتب، وبعضهم يزعم أن الكاتب دجّال منحرف لم يُغادر بلده ويعيش حرّاً في قرية نائية، وبعضهم راح يُصحح لغونتر غراس بأن الكاتب الذي يتوسّط له ليس أديبًا جديرًا، وأن ما كتبه ليس رواية أصلاً.
استمع غونتر غراس للكلام الجميع قرابة نصف ساعة، ولم يتزحزح مطلقاً عن موقفه. حتى جرّبوا جميع الحيل ونطقوا بكل الحجج. إلى أن علم الرئيس صالح بما يحدث، متدخلًا في حسم الجدال، يومها طلب الرئيس صالح منه مهلة عشر دقائق للتشاور في الأمر. لا أحد يعرف ما الذي جرى بالضبط. لأنه لم يصحب معه أحداً من رجالات الدولة حين خرج. لكنه بعد عودته أعلن موافقته على مطالب غونتر غراس، ثم وافق على استلام الوسام.
وفي واقعة مقاربة، كتب صحفي يمني وكاتب معروف في صحيفة خارجية عن معاناته في الغربة، وحنينه الى الوطن، وخوفه الكبير على حياته في حال عاد الى اليمن، كان يومها هاربًا من السلطة ورئيسها القوي آنذاك، هذا الكاتب اليمني المعروف بعد أن نشر مقاله الصحفي تفاجأ باتصالات وضمانات لقاء عودته للوطن، وبالفعل عاد أمنًا، ليستقبله أحد وكلاء الرئاسة في مطار صنعاء ويأخذه مباشرة للقاء الرئيس، وفي اللقاء القصير أنهى الرئيس مخاوف الصحفي، وطمنه بشكل صريح، وأعطاه الأمان والحرية، وبجانبهما قدم له أثنين مليون ريال وسيارة محترمة وراقية وباهضة الثمن.
خاتمة:
هذه محطات خالدة من حياة الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، في ذكرى شهادته وخطبه الأخير، محطات لا يمكن للزمان تجاهلها أو محوها، لأنها بتقية في وجدان اليمنيين جميعًا، عن رئيس لا يمكن تكراره أو تجاوزه أو تشويه ماضيه، رئيسًا يمنيًا جاء من أفقر الظبقات، وبدأ من أصعب اللحظات، وحين غادر تقدم كأعظم الأبطال المواجهين، قائد الشعب بشعب، ومؤسس الدولة، وصانع الملامح اليمنية، رحمة الله عليه، رئيسنا اليمني الأخير.
ماجد زايد
صحفي وكاتب يمني
1.ديسمبر. 2023
تعليقات
إرسال تعليق